پیوست شماره ٣: ارتکاز در کلمات شیخ انصاری

کتاب الطهاره

الف )ثمّ إنّ مقتضى إطلاق بعض الأخبار و إن كان كفاية مطلق التغيّر- و لو بالمجاورة- مثل صحيحة ابن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء‌ إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه»  و غيرها، إلّا أنّ الظاهر منها و من غيرها وقوع الاستثناء عمّا يلاقي الماء لا عن كلّ شي‌ء، فإنّ الظاهر المتبادر المركوز في أذهان المتشرّعة من قول القائل: «هذا ينجّس الماء أو الثوب» حصول ذلك بالملاقاة، و لذا لم يحتمل أحد في مفهوم «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» حصول الانفعال للقليل بمجاورة النجاسة[1].

ب)لأنّ الأصل في ملاقي النجس النجاسة، و لذا استدلّ في الغنية على نجاسة الماء القليل بالملاقاة بقوله تعالى:

(وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ)  لأنّ المركوز في أذهان المتشرّعة اقتضاء النجاسة في ذاتها للسراية، كما يظهر بتتبّع الأخبار، مثل قوله عليه السلام في الرّد على من قال: لا أدع طعامي من أجل فأرة ماتت فيه: «انّما استخففت بدينك، إنّ اللّٰه حرّم الميتة من كلّ شي‌ء»  فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافا بحكم الشارع بحرمة الميتة- يعنى نجاستها- إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشي‌ء لنجاسة ما يلاقيه[2].

ج)و بالجملة: فالقاعدة المتقدّمة المستفادة من الأخبار- أعني نجاسة المائع الملاقي للنجس- لم يعلم شموله للأجزاء العالية من المائع الملاقي بعضه للنجس، فلاحظها جميعا. بل المركوز في أذهان المتشرّعة عدم السراية، و لذا استقرّت سيرتهم على العمل على ذلك، بل صرّح في الروض بأنّه لا يعقل سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى. و هو و إن كان ممنوعا، إلّا أنّ دعواه كاشفة عن عدم وجدانه الخلاف في ذلك عن أحد من العقلاء فضلا عن العلماء[3].

د)و أمّا قاعدة نجاسة الملاقي للنجس، فلا ريب في شمولها لكلّ من الماء و المحلّ، إذ اللازم من نجاسة الماء بالمحلّ نجاسة المحلّ بالماء، لحصول الملاقاة من الطرفين، فالتزام عدم نجاسة الماء و إلّا لنجس المحلّ و لم يطهّره ليس بأولى من التزام عدم نجاسة المحلّ به، بل الأوّل أبعد، لأنّ ما تأثّر من الشي‌ء لا يؤثّر فيه ذلك الأثر. نعم، لا يبعد أن يؤثّر فيه خلافه بنقل ما فيه إلى نفسه.

فتلخّص عن ذلك كلّه: أنّه لا دليل على لزوم عدم نجاسة الماء المطهّر حتّى من جهة ملاقاة المحلّ.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ التشبّث في المقام بقاعدة تنجّس كلّ متنجّس مع عدم تنجيس الغسالة لمحلّها لا وجه له أصلا.

ثمّ إنّ الدليل المذكور- بعد تسليم عمومه- معارض بأنّ الغسالة لو كانت طاهرة لجاز التطهير بها من الحدث، لأنّ التفكيك بينهما يوجب التقييد في إطلاق ما دلّ على جواز رفع الحدث بالماء الطاهر، خرج ماء الاستنجاء كما خرج حجره من الدليل المذكور. و حاصل المعارضة: أنّ هذا الماء جمع بين ما هو لازم للطهارة إلّا ما خرج- و هو تطهير المحلّ- و لازم للنجاسة‌ إلّا ما خرج- و هو عدم جواز رفع الحدث به ثانيا- فأدلة المتلازمتين متعارضة.

إلّا أن يقال- بعد تسليم عموم الدليل المذكور-: إنّه كما يعارض بالإطلاقات المذكورة، كذلك يعارض بأدلّة انفعال الماء القليل، و التعارض بين الكلّ بالعموم من وجه فيجب التوقّف و الرجوع إلى أصالة عدم الانفعال.

لكن يمكن منعه بأنّ ارتكاب التقييد في دليل واحد خصوصا مثل هذا الإطلاق الّذي لم يسلّم إلّا تنزّلا أولى من ارتكابه في الأدلّة المتعدّدة فلا يرجع إلى الأصل، مع إمكان أن يقال: إنّ المرجع بعد التوقّف هو ما استقرّ في أذهان المتشرّعة من انتقال النجاسة من المحلّ إلى الماء.

إلّا أن يدفع ذلك بأنّ هذا لأجل قياسهم النجاسة على القذارة الخارجية الّتي يستهلك في الماء و يتوزّع فيه، أمّا بعد اطّلاعهم على أنّ كلّ جزء من الماء يكتسب قذارة كقذارة المحلّ بعينها فيتحاشون عن انفعال الماء بالمحلّ و صيرورة كلّ قطرة من الماء كالرطوبة النجسة من البول أو الدم الّتي أريد إزالتها بالماء مع زوال النجاسة من المحلّ، كما يفهم ذلك لو قيل لهم: إنّ هذا الماء المنصبّ على المحلّ لإزالة ما به من رطوبة الوسخ الفلاني يصير كلّ جزء صغير منه متّصفا بوسخ تلك الرطوبة. فالأولى رفع اليد عن تصويرات العرف و قياسات الأمور الشرعية بأشباهها من الأمور الحسّية، و الرجوع إلى الأدلّة اللفظية الشرعية أو الأصول[4].

ه)أمّا ضعف المناقشة في عمومات البدليّة، فلأنّ قوله عليه السلام في صحيحة حمّاد: «هو بمنزلة الماء»  يدلّ على وجوب استعمال التراب حيث وجب استعمال الماء، سواء كان الواجب استعمال مطلق الماء أو استعمال ماء خاصّ كماء السدر و الكافور.

و المضايقة في نسبة التطهير إلى الماء المصاحب للسدر بدعوى اشتراك السدر معه في أحداث الطهارة مخالف لما هو المركوز في أذهان المتشرّعة: من استقلال الماء في الطهوريّة، و لما دلّ على انحصار الطهور في الماء و التراب، مثل قولهم عليهم السلام: «هو أحد الطهورين» ، و قولهم في بيان الطهور: «إنّما هو الماء و التراب»  و نحو ذلك، و حينئذٍ فيجب استعمال التراب بدل ماء السدر و الكافور كما يجب بدل القراح[5].

و) و ظاهر الروايتين وجوب غسل ما لاقى الثوب مع رطوبة متعدّية من الميّت إليه، فلا يجب غسل ما لاقاه مع يبوستها؛ للأصل السليم عما يدلّ على التعدّي من دون رطوبة في أحد المتلاقيين، عدا ما تخيّله في المدارك: من إطلاق هاتين الروايتين اللتين عرفت ظهورهما في اكتساب الثوب رطوبة من جسد الميّت، مع أنّه لو سلّم الإطلاق فيهما كالثالث فهو مقيّدٌ بما هو مركوز في أذهان المتشرّعة: من اعتبار الرطوبة في التأثير[6].


[1] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)؛ ج‌1، ص: ۸۳-۸۴

[2] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)؛ ج‌۱، ص: ۲۹۲

[3] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)؛ ج۱، ص: ۳۰۱

[4] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)؛ ج‌۱، ص: ۳۲۸-۳۲۹

[5] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)؛ ج‌۴، ص: ۲۷۰

[6] كتاب الطهارة (للشيخ الأنصاري)، ج‌۵، ص: ۴۳

رسائل فقهیه

أمّا صحّة الاستيجار: فالحقّ صحّته وفاقا للمعظم، لوجوه:

الأوّل: الإجماعات المستفيضة عن جماعة كالشهيد قدّس سرّه حيث قال في الذكرى: إنّ هذا النوع ممّا انعقد عليه إجماع الإماميّة الخلف و السلف، و قد تقرّر أنّ إجماعهم حجّة قطعية (انتهى).

و حكي الإجماع أيضا عن الإيضاح  و جامع المقاصد و إرشاد الجعفرية  بل عن ظاهر مجمع الفائدة أيضا ، و عن بعض الأجلّة- كأنّه صاحب الحدائق- عدم الخلاف في المسألة

و يؤيّد ذلك- مضافا إلى الشهرة العظيمة، إذ لم يخدش في ذلك إلّا صاحبا الكفاية و المفاتيح - استقرار سيرة الشيعة في هذه الأعصار و ما قاربها من المجتهدين و العوام و المحتاطين على الاستيجار و الإيصاء به.

و يدلّ على المسألة- مضافا إلى ما عرفت- أنّ المقتضي لصحّة الاستيجار موجود و المانع مفقود، لاتّفاق المسلمين على أنّ كلّ عمل مباح  مقصود للعقلاء لا يرجع نفعه الى خصوص العامل و لم يجب عليه يجوز استئجاره عليه، و منع تحقّق الإجماع في خصوص كلّ مقام ضروري الفساد عند أدنى محصّل، إذ لم تسمع المناقشة في هذه القاعدة و مطالبة الدليل على الصحّة في كلّ مورد من الأعمال المستأجر عليها كما في الأعيان المستأجرة.

هذا كلّه مضافا إلى العمومات الدالّة على صحّة إجارة الإنسان نفسه، كما في رواية تحف العقول  و غيرها  و عمومات الوفاء بالعقود  و حلّ أكل المال بالتجارة عن تراض  و عمومات الصلح إذا وقعت المعاوضة على جهة المصالحة

و بالجملة: فالأمر أظهر من أن يحتاج إلى الإثبات.

ثمّ إنّ ما ذكره المخالف في المقام لا يوجب التزلزل فيما ذكرناه من الدليل، إذ المحكيّ عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح ما هذا لفظه: «أمّا العبادات الواجبة‌ عليه الّتي فاتته، فما شاب منها المال كالحجّ يجوز الاستئجار له كما يجوز التبرّع به عنه بالنصّ و الإجماع، و أمّا البدنيّ المحض- كالصلاة و الصيام- ففي النصوص أنّه «يقضيها عنه أولى الناس به» و ظاهرها التعيّن عليه، و الأظهر جواز التبرّع بهما عنه من غيره أيضا.

و هل يجوز الاستيجار لهما عنه؟ المشهور نعم، و فيه تردّد، لفقد نص فيه، و عدم حجّيّة القياس حتّى يقاس على الحجّ أو على التبرّع، و عدم ثبوت الإجماع بسيطا و لا مركّبا، إذ لم يثبت أنّ كلّ من قال بجواز التبرّع قال بجواز الاستيجار لهما.

و كيف كان: فلا يجب القيام بالعبادات البدنيّة المحضة بتبرع و لا استئجار، إلّا مع الوصيّة»  (انتهى).

و الظاهر أنّ استثناء الوصيّة من نفي الوجوب رأسا، فيجب مع الوصيّة في الجملة، لا مطلقا حتّى يشمل الوصيّة بالاستئجار، كما زعمه بعض فأورد عليه بأنّه لا تأثير للوصيّة في صحّة الاستيجار.

و كيف كان: فحاصل ما ذكره- كما حصّله بعض- يرجع إلى التمسّك بالأصل.

فإن أراد أصالة الفساد بمعنى عدم سقوطه عن الوليّ و عدم براءة ذمّة الميّت، ففيه أنّه لا يعقل الفرق بين فعل الأجير إذا وقع جامعا لشرائط الصحّة و فعل المتبرّع في براءة ذمّة الميّت و الوليّ في الثاني دون الأوّل و إن قلنا بفساد أصل الإجارة.

و دعوى عدم وقوع فعل الأجير صحيحا، لعدم الإخلاص- مع أنّه كلام آخر يأتي الإشارة إليه- مدفوعة بأنّه قد لا يفعله الأجير إلّا بنيّة القربة، إذ الاستيجار لا يوجب امتناع قصد القربة.

و إن أراد به أصالة فساد الإجارة، بمعنى عدم تملّك الأجير للأجرة المسمّاة و عدم تملّك المستأجر العمل على الأجير ليترتّب عليه آثاره، ففيه ما عرفت سابقا من أنّه لا معنى لمطالبة النصّ الخاصّ على صحّة الاستيجار لهذا العمل الخاصّ من بين جميع الأعمال الّتي يعترف بصحّة الاستيجار عليها من غير توقف على نص خاصّ، فهل تجد من نفسك التوقّف في الاستيجار لزيارة الأئمة عليهم السلام من جهة عدم النصّ الخاصّ، و كون إلحاقه قياسا محرّما[1]؟.


[1] رسائل فقهية (للشيخ الأنصاري)؛ ص: ۲۴۱-۲۴۴