سه) جایگاه علوم قرآنی در کتب تفسیری

محقق کتاب تفسیری جناب سید مرتضی، نفائس التأویل، در بیان جایگاه علم قراءات در کلام سید می‌فرماید: و تبدو عناية المرتضى بالقراءات القرآنية واضحة في بحثه التفسيري، فهو يحتجّ بها في بيانه لدلالة النصّ القرآني، و يرجح قراءة على أخرى، و يشير إلى اختلاف القراءات و من قرأ بها و علاقتها باللغة و النحو، ذاكرا ما يترتّب على اختلاف القراءة على المعنى. و يمكن لنا بيان ذلك من خلال الآتي:

احتجاج به قرائات

وقف المرتضى عند قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة، آیه ٧٢]، و نراه يتساءل: كيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل و القاتل واحد؟ و في الجواب يذكر المرتضى أن اسلوب إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء و الأجداد، «فيقول أحدهم: فعلت بنو تميم كذا، و قتل بنو فلان فلانا، و إن كان القاتل و الفاعل واحدا من بين الجماعة، و منه من قرأ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ [التوبه/١١١]بتقديم المفعولين على الفاعلين، و هو اختيار الكسائي، و أبي العبّاس ثعلب، فيقتل بعضهم و يقتلون، و هو أبلغ في وصفهم و أمدح لهم، لأنهم إذا قاتلوا و قتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدل على شجاعتهم»

و قد قرأ كلّ من حمزة و الكسائي و خلف: فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ، بضمّ الياء و فتح التاء في الحرف الأوّل، و فتح الياء و ضمّ التاء في الحرف الثاني، أي ببناء الأوّل للمفعول و الثاني للفاعل. و الباقون: فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ، بفتح الياء و ضمّ التاء في الحرف الأوّل، و ضمّ الياء و فتح التاء في الحرف الثاني، أي ببناء الأوّل للفاعل و الثاني للمفعول، لأن القتال قبل القتل  و قد علل الدمياطي (ت 1117 ه) قراءة حمزة و الكسائي بقوله: «أما لأن الواو لا تفيد الترتيب أو يحمل ذلك على التوزيع، أي منهم من قتل و منهم من قاتل»  و القول الثاني غير بعيد عن قول الشريف المرتضى.

و من مواطن احتجاجه بالقراءات هو ما أشار إليه في بيانه لدلالة قوله تعالى:

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ، [هود/ ۴۵-۴۶]فقد ذكر قول بعض المفسّرين:إنّ الهاء في قوله تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ راجعة إلى السؤال، و المعنى أن سؤالك إيّاي ما ليس لك به علم عمل غير صالح؛ لأنه قد وقع من نوح عليه السّلام السؤال و الرغبة في قوله: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ «6»، و لكن الشريف المرتضى الّذي يقول بعصمة الأنبياء عليهم السّلام يرفض هذا القول، و يرى أن الهاء في الآية لا يجب أن تكون راجعة إلى السؤال، بل إلى الابن، «و يكون تقدير الكلام: إنّ ابنك ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه»

و يحتجّ المرتضى لهذا التوجيه بقراءة: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بكسر الميم و فتح اللام و نصب غير، فيقول: و قد قرأت هذه الآية بنصب اللام و كسر الميم و نصب غير، و مع هذا القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح عليه السّلام «2». و يذكر المرتضى أن هناك من ضعف هذه القراءة و قال: «كان يجب أن يقول أنه عمل عملا غير صالح، لأن العرب لا تكاد تقول: هو يعمل غير حسن، حتّى يقولوا: عملا غير حسن» ، و يرفض المرتضى هذا الرأي و يرده بقوله: «و ليس هذا الوجه بضعيف، لأن من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى و زوال اللبس، فيقول القائل: قد فعلت صوابا و قلت حسنا، بمعنى فعلت فعلا صوابا ... و قال عمر بن أبي ربيعة».

                 أيّها القائل غير الصواب             أخر النصح و أقلل عتابي

و قد قرأ الكسائي و يعقوب بكسر الميم و فتح اللام، و نصب غير مفعولا به أو نعتا لمصدر محذوف، أي عملا غير [صالح‏]، و الباقون بفتح الميم و رفع اللام منونة «إنّه عمل غير صالح»، على أنه خبران، و غير بالرفع صفة على معنى ذو عمل

أما من جعل الضمير عائدا إلى السؤال المفهوم من النداء، فإنّه يحمل الكلام على أن نوحا عليه السّلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه، و هذا لا يجوز في حقّ الأنبياء عليهم السّلام، «و فيه خطر عظيم ينبغي تنزيه الرسل عنه . و لذا رفضه الشريف المرتضى و ضعفه الزمخشري، إذ قال: «قيل الضمير لنداء نوح: أي نداؤك هذا عمل غير صالح، و ليس بذاك»

بیان اختلاف قراء

و لا يكتفي المرتضى بالاحتجاج بالقراءات بل إنّه- و في أغلب الأحيان- يتوسّع في القراءة و يذكر اختلاف القراء و حجّة كلّ قراءة، و عني خاصّة بتوجيه القراءات المشهورة (السبع) و بيان حججها و عللها و ذكر طرفها، ففي قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ  يشير السيّد المرتضى إلى اختلاف القرّاء السبعة في رفع الراء و نصبها في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ، فقال: قرأ حمزة و عاصم في رواية حفص: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، و روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب و الرفع، و قرأ الباقون بالرفع، و الوجهان جميعا حسنان؛ لأن كلّ واحد من الاسمين: اسم ليس و خبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافئا في جواز كون أحدهما اسما و الآخر خبرا. ثمّ ذكر المرتضى حجّة كلّ فريق فقال: «و حجّة من رفع «البرّ» أنه: لأن يكون «البرّ» الفاعل أولى، لأنه «ليس» يشبه الفعل، و كون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده ... و حجّة من نصب «البرّ» أن يقول: كون الاسم أن وصلتها أولى لشبهها بالمضمر ... فكأنّه اجتمع مضمر و مظهر، و الأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر»

و لم يرجح المرتضى- هنا- احدى القراءتين، و هذا هو شأنه حين يجد لكلّ قراءة ما يقويها من الناحية اللغوية و الدلالية. و كان مكّي القيسي (ت ۴۳۷ ه) يرجح قراءة الرفع و يحتجّ لها بقوله تعالى: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها  في هذا يقول: «و يقوى رفعه، رفع «البرّ» الثاني، الّذي معه الباء إجماعا في قوله: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا و لا يجوز فيه إلّا رفع «البرّ» فحمل الأوّل على الثاني أولى من مخالفته»

و وقف المرتضى عند قوله تعالى: إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الانعام/٣٣]و في بيانه لدلالة الآية يذكر المرتضى أن اللّه سبحانه و تعالى إنّما أراد نفي تكذيبهم بقلوبهم تدينا و اعتقادا، و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب، لأنه قد كان في المخالفين له عليه السّلام من يعلم صدقه، و هو مع ذلك معاند، فيظهر خلاف ما يبطن. ثمّ يشير إلى قراءة الكسائي بقوله: و كان الكسائي يقرأ: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف و نافع من بين سائر السبعة، و الباقون على التشديد؛ و يزعم أن بين أكذبه و كذبه فرقا، و أن معنى أكذب الرجل، أنه جاء بكذب، و معنى كذبته أنه كذّاب في كلّ حديثه، و هذا غلط، و ليس بين «فعلت» و «أفعلت» في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر ممّا ذكرناه من أن التشديد يقتضي التكرار و التأكيد ...»

فالمرتضى- هنا- لا يرد قراءة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف، أي سكون الكاف و تخفيف الذال، و لكنّه يرفض توجيه الكسائي لها، و لا يرى فرقا بين القراءتين أكثر من كون قراءة التشديد فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بفتح الكاف و تشديد الذال، تقتضي التكرار و التأكيد. و لعلّ قول الكسائي أن بين أكذبه و كذبه فرقا هو الأقرب إلى الواقع اللغوي، لأنّه لو لم يختلف المعنى لم تختلف الصيغة، إذ كلّ عدول عن صيغة إلى أخرى لا بدّ أن يصحبه عدول عن معنى إلى آخر إلّا إذا كان‏ ذلك لغة». و قد فرق الراغب بين الصيغتين، فوجه الّتي بالتخفيف للدلالة على وجود الشي‏ء، و بين أن معناه: «لا يجدونك كاذبا»، و وجه الّتي بالتشديد للدلالة على النسبة إلى الشي‏ء، أي لا يستطيعون أن ينسبوك إلى الكذب، و عبّر عن هذا المعنى بقوله: «لا يستطيعون أن يثبتوا كذبك»

ترجیح القراءه

و نجد الشريف المرتضى في بعض المواضع يرجح قراءة على أخرى، و يبدو أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه لترجيح قراءة على أخرى، و إن لم يلتزم ذلك. ففي قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى[الضحی/ ٧]، ذكر في معنى الآية وجوها منها: «أنّه أراد وجدك ضالّا عن النبوّة فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام الّتي نزلت عليه و أمر بتبليغها إلى الخلق». ثمّ ذكر قراءة من قرأ بالرفع «و وجدك ضالّ فهدى»، على أن اليتيم وجده و كذلك الضال  لكنّه ردّ هذا الوجه بقوله: «و هذا الوجه ضعيف، لأنّ القراءة غير معروفة، و لأنّ هذا الكلام يسمج و يفسد أكثر معانيه»

و قد جاء في تفسير القرطبي: «و في قراءة الحسن «و وجدك ضالّ فهدى»، أي وجدك الضالّ فاهتدى بك؛ و هذه قراءة على التفسير»

و وقف المرتضى عند قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائده/ ۶٠]

و يتساءل: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالّة على أنه تعالى جعل الكافر كافرا؛ لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت؛ كما جعل القردة و الخنازير؟

لكنّه يرفض هذا القول و يصرح بأنه ليس في ظاهر الآية ما ظنّوه، و أكثر ما

تضمّنته الأخبار بأنه خلق و جعل من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة و الخنازير؛ و لا شبهة في أنه تعالى هو خلق الكافر، غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره و جعله كافرا . ثمّ يذكر قولا يرجحه و يقويه و هو: «يجوز أن يعطف «عبد الطاغوت» على الهاء و الميم في «منهم»، فكأنّه جعل منهم، و ممّن عبد الطاغوت القردة و الخنازير؛ و قد يحذف «من» في الكلام؛ قال الشاعر:

         أ من يهجو رسول اللّه منكم             و يمدحه، و ينصره سواء

أراد: و من يمدحه و ينصره»

و على طريقته في المحاجّة و المجادلة يقول: «فإن قيل: فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح، أين أنتم عن قراءة من قرأ «و عبد» بفتح العين و ضمّ الياء، و كسر التاء من «الطاغوت»، و من قرأ «عبد الطاغوت» بضمّ العين و الباء

و يرد الشريف المرتضى هذا القول بحجّة أن المختار من هذه القراءة «عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح، و عليها جميع القرّاء السبعة إلّا حمزة فإنّه قرأ: «عبد» بفتح العين و ضمّ الباء، و باقي القراءات شاذّة غير مأخوذ بها».

و هذا يعني أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه إلى ترجيح قراءة على أخرى، و لكنّه لم يلتزم بهذا النهج، و لم تكن القراءات المشهورة كلّها عنده‏

بمستوى واحد، إذ نجده- أحيانا- يضعف القراءات المشهورة لأن ظاهرها يخالف قواعد اللغة، فهو حين وقف عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة/ ۶] ذكر أنّ القراءة بالجرّ أولى من القراءة بالنصب «لأنّا إذا نصبنا الأرجل فلا بدّ من عامل في هذا النصب، فامّا أن تكون معطوفة على الأيدي، أو يقدر لها عامل محذوف، أو تكون معطوفة على موضع الجار و المجرور في قوله تعالى: وَ امْسَحُوا . و يرفض المرتضى أن تكون الأرجل معطوفة على الأيدي «لبعدها عن عامل النصب في الأيدي، و لأن إعمال الأقرب أولى من أعمال الأبعد»

ثمّ يرفض أن تنصب بمحذوف مقدر لأنّه «لا فرق بين أن تقدر محذوفا هو الغسل، و بين أن تقدر محذوفا هو المسح، و لأن الحذف لا يصار إليه إلّا عند الضرورة»

فأمّا حمل النصب على موضع الجار و المجرور، «فهو جائز و شائع إلّا أنّه موجب للمسح دون الغسل، لأنّ الرءوس ممسوحة، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها». لكن المرتضى يعود و يرجّح أن تكون الأرجل معطوفة على لفظة «الرءوس»، لأنّ «إعمال أقرب العاملين أولى و أكثر في لغة القرآن و الشعر». و هذا- كما يقول- «أولى من نصبها و عطفها على موضع الجار و المجرور، لأنه أبعد قليلا، فلهذا ترجحت القراءة بجر الأرجل على القراءة بنصبها»

و قد قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي «و أرجلكم» بنصب اللام عطفا على «أيديكم» و قرأ الباقون «و أرجلكم» بالخفض عطفا، على «رءوسكم»  و قد استحسن الطبري قراءة الخفض مؤثرا لها قائلا: «و أعجب القراءتين إلى أن أقرأها قراءة من قرأ خفضا» و قد أوّل جرّ لفظه «و أرجلكم» على أنها معطوفة على «رءوسكم»، لأن العطف على الرءوس مع قربه منه «أي من الأرجل» أولى من العطف على الأيدي، و قد فصّل بينه و بينها بقوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ. و إلى هذا المعنى ذهب ابن هشام الأنصاري، فقد ذكر أن العطف لو كان على الوجوه و الأيدي للزم ذلك أن يفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية و هي: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و إذا حمل العطف، أعني عطف الأرجل- على الرءوس لم يلزم الفصل بالأجنبي، و الأصل أن لا يفصل بين المتعاطفين بمفرد فضلا عن جملة

و ذكر المرتضى الرأي القائل: إنّ الأرجل إنّما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في الحكم على الرءوس، ورد هذا القول لأسباب منها: ان الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر ... و لا يجوز حمل كتاب اللّه عزّ و جلّ على الشذوذ الّذي ليس بمعهود و لا مألوف. و منها: انّ الإعراب بالمجاورة عند من أجازه إنّما يكون مع فقد حرف العطف ... و منها انّ الإعراب بالمجاورة إنّما استعمل في الموضع الّذي ترتفع فيه الشبهة و يزول اللبس ...» و قد سبق أن اشار الزجاج إلى هذا التأويل، فقد أنكر أن تكون هذه اللفظة مجرورة على الجوار، و أبى أن يحمل عليه كتاب اللّه تعالى ذكره، متأوّلا جرّ لفظة «و أرجلكم» عطفا على «رءوسكم». و أنكر النحاس الجرّ على الجوار، و عده غلطا عظيما في الكلام  و أنكره ابن خالويه، و حمله على الضرورة في الأمثال و الشعر

و هناك من ارتضى الجرّ على الجوار، و من هؤلاء أبو عبيدة «8»، و أبو البقاء، إذ ذكر أن الجوار مشهور و أنه غير ممتنع أن يقع في القرآن الكريم  و مال إلى هذا الرأي الدكتور عبد الفتّاح الحموز

قرائات شاذه

و عناية الشريف المرتضى بالقراءات لا تقف عند القراءات المشهورة، بل نراه يذكر القراءات الشاذّة، و يحتجّ لها أو يعلّلها، ففي تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه/ ١۴٢]، قال: «و روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ:

 «أكاد أخفيها» فمعنى «أخفيها» على هذا الوجه أظهرها؛ قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا

         يخفي التراب بأظلاف ثمانية             في أربع مسهن الأرض تحليل‏

أراد أنه يظهر التراب و يستخرجه بأظلافه ...»

و أعقب ذلك بقوله: «و قد روى أهل العربية: أخفيت الشي‏ء يعني سترته، و أخفيته بمعنى أظهرته، و كأن القراءة بالضمّ تحتمل الأمرين: الإظهار و الستر، و القراءة بالفتح لا تحتمل غير الإظهار ...» «۶».

و قد قرأ الحسن و سعيد بن جبير بفتح الهمزة «أخفيها»، و سائر القرّاء بالضمّ «أخفيها»  و واضح ان المرتضى يعدّ قراءة «اخفيها» بالضمّ من الاضداد و سبق ان أشرنا إلى قول ابن جني في هذه اللفظة فهو يرى ان «اخفيها» بالضمّ لا تحتمل غير معنى الإظهار، إذ قال في تأويل الآية: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها: تأويله و اللّه أعلم عند أهل النظر: أكاد أظهرها. و تلخيص حال هذه اللفظة: أي أكاد أزيل عنها خفاءها و خفاء كلّ شي‏ء؛ غطاؤه ... فأخفيها في أنه «أزيل خفاءها»: بمنزلة قوله «لو أننا نشكيها»: أي نترك لها ما تشكوه و كأن ابن جني يرى الهمزة في قراءة «أخفيها» بالضمّ هي همزة سلب، ذلك بأن سلبت معنى الفعل الثلاثي و نقلته إلى المعنى المضاد  فالضدية لا تعود إلى اللفظة ذاتها، و إنّما تعود إلى اختلاف الصيغة الصرفية بين «فعل و أفعل».

خلاصه کلام

و خلاصة القول: انّ السيّد المرتضى قد اهتمّ بالقراءات و بيان حججها، و اختلافها و ذكر من قرأ بها، و علاقتها باللغة و النحو و الدلالة، و كان و هو يحتجّ بها يذكر من كلام العرب و الشواهد الشعرية ما يؤيّدها، فدلّ بذلك على علم بالقراءات و إحاطة بالمشهور منها و الشاذّ و كانت عنايته بالقراءات المشهورة أكثر، و الشهرة عنده سبب من أسباب قوّة القراءة عند الموازنة بينها- و إن لم يلتزم ذلك- كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏ ، و قراءة وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ  بفتح العين و الباء.

و مع قوله بشذوذ طائفة من القراءات و عدم جواز القراءة بها، لا يغفل ما لبعض منها- الشاذّة- من اعتبارات و قيم معنوية و لغوية، و لا يهمل توجيهها و الاحتجاج لها، كما رأينا ذلك في توجيهه لقراءة سعيد بن جبير أَكادُ أُخْفِيها بفتح الهمزة، و الاحتجاج لها بالشعر و تخريجها دلاليا.

و على الرغم من عناية المرتضى بالقراءات المشهورة، إلّا أن ذلك لم يمنع من الموازنة بينها و ترجيح بعضها على بعض من دون أن يعني هذا الترجيح إسقاط المرجوح و قبول الراجح وحده، فالمرتضى لم يقف عند توجيه القراءات المشهورة و بيان عللها و حجج القراء فيها فحسب، بل أبدى رأيه في طائفة منها، بترجيح بعضها على بعض، و اختيار ما رآه الأقوى منها، مستعينا على ذلك باللغة  و الشواهد القرآنية و الشعرية، ناقلا أراء غيره و مبديا رأيه، و كأنه ينظر إلى قول ابن مجاهد «ما روي من الآثار في حروف القرآن، منها المعرب السائر الواضح، و منها المعرب الواضح غير السائر، و منها اللغة الشاذّة القليلة، و منها الضعيف المعنى في الإعراب ... و بكلّ قد جاءت الآثار» و قد بنى المرتضى توجيهه و ترجيحه القراءات المشهورة على معايير متنوّعة أظهرها:

- معيار أسلوبي، كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ، بتقديم المفعولين على الفاعلين؛ لأن ذلك- عنده- أبلغ في وصفهم و أمدح لهم، و أدل على شجاعتهم.

- و معيار عقلي، كما رأينا في توجيهه لقراءة إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ

فالمرتضى الّذي يقول بعصمة الأنبياء عليهم السّلام يرى أن الهاء في الآية لا يجب أن تكون راجعة إلى السؤال بل إلى الابن، و يكون تقدير الكلام: إن ابنك ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه.

- و معيار نحوي، كما رأينا ذلك في ترجيحه لقراءة

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [أقول:] بجر لفظة وَ أَرْجُلَكُمْ.

- و معيار صرفي، كما رأينا ذلك في توجيهه لقراءة فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف، حيث رفض قول الكسائي بأن بين أكذبه فرقا، فمعنى هذه اللفظة- عنده- مشددة يعود إلى معناها مخفّفة، لأنه- كما يقول- «ليس بين فعلت و أفعلت في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى[1]»


[1] تفسير الشريف المرتضي، ج‏1، ص: ۹۴-١٠۵ مقدمه کتاب