مصابیح الظلام
الف)و يحتمل أن يكون قوله: فأتممت الصلاة، مثل قول أبي ولّاد: فأتمّ الصلاة، بعد قوله: نويت حين دخلت المدينة أن اقيم بها عشرا
و يحتمل أن يكون نوى المقام مطلقا من دون تقييد بعشرة أيّام، أو الدوام، أو غير ذلك، كما هو منطوق الخبر.
و تبادر إقامة العشرة في أمثال زماننا، إنّما هو بسبب الفتاوى و اشتهارها عند المتشرّعة، فلا يلزم أن يكون ذلك الزمان أيضا كذلك، سيّما عند كلّ أحد- حتّى عند هذا الراوي أيضا- حتّى يلزم الإشكال، سيّما أنّ الأصل عدم التقدير، و عدم الزيادة[1].
ب)قوله: (إذا أحدث في أثنائه بالأصغر). إلى آخره.
إذا أحدث بالأكبر، فلا شكّ في وجوب إعادة الغسل من رأسه، و لا إشكال بعد اتّحاد حكم الأوّل و الحادث بتماثلهما، إلّا في الاستحاضة بالنهج الذي مرّ في مبحثها.
و أمّا مع الاختلاف، مثل ما إذا مسّ الميّت في أثناء غسل الجنابة- و نقول:
إنّ مسّ الميّت ليس بحدث مانع من الصلاة- أو حدث، أو طرأ الاستحاضة، و هي لا تمنع عن دخول المساجد و المكث فيها، أو طرأ الحيض في حال الجنابة. و قد عرفت رفع الجنابة مع أنّها حائض إن اغتسلت للجنابة. إلى غير ذلك، فلا يخلو عن إشكال، لعدم ثبوت اتّحاد موجب للغسل مع ناقضه، بل ظهور عدم الاتّحاد في الجملة، إذ لم يثبت من الأخبار سوى أنّ حدوث أمر كذا يوجب الغسل.
و أمّا أنّه يخرب الغسل فلم يثبت، بل الإشكال في حدثيّة المسّ يقتضي الإشكال في إفساده الغسل بطريق أولى، و يزيد أصل الإشكال بناء على أنّ غسل غير الجنابة لا يكفي من غسل الجنابة.
مع أنّ غسل غير الجنابة لا بدّ فيه من الوضوء، و أنّ الحدث الأكبر ليس معنى واحدا، كما مرّ، مثلا لو اغتسلت امرأة من الجنابة، و لم يبق من جسدها إلّا قدر لمعة، فحاضت أو استحاضت أو مسّت الميّت، فهل انتقض غسلها بالمرّة و زالت الطهارات الحاصلة لما سوى اللمعة، فصار حالها حال من صدر منه الجنابة موضع الأحداث المذكورة، أو حدثت قبل الغسل؟ أم لم ينتقض غسلها، بل الطهارات الحاصلة باقية على حالها، مستصحبة حتّى يثبت زوالها؟ و لم يثبت.
فلو مسّت الأعضاء الطاهرة كتابة القرآن لم يكن حراما، على القول به في غير المقام
و أيضا لا يكون رفع الجنابة متوقّفا على الإعادة، بل يكفي غسل اللمعة و بعد غسلها- بقصد تتمّة غسل الجنابة- لم يكن جنبا، و إن كانت مستحاضة- مثلا- يجوز لها دخول المساجد، و إن كانت ماسّة الميّت يجوز لها الصلاة أيضا قبل غسل المسّ، على القول بعدم حدثيّة المسّ. إلى غير ذلك من أمثال ما ذكر.
على أنّه كيف يكفي إعادة الغسل من دون وضوء، مع كون جميع أعضائه طاهرة عن حدث الجنابة ما عدا اللمعة؟
و أيضا كيف يكفي قصد رفع الجنابة للأعضاء الطاهرة عنها، سيّما مع اجتماع الأحداث التي ليست بجنابة فيها؟ و كلّ واحد منها يقتضي الوضوء، فكيف يغتسل للجنابة من دون وضوء؟
و كيف يكفي قصد رفع الحيض- مثلا- لتلك اللمعة، سيّما مع القول بقهريّة التداخل؟ مع أنّ غسل الحيض لا بدّ فيه من الوضوء، و الجنابة يحرم معه الوضوء.
إلى غير ذلك من الإشكالات.
و الظاهر أنّ مع الإعادة من رأس يقصد مجموع الغسلين و الوضوء قبلها، ليرتفع الإشكال و لا يبقى معهما إشكال مع التنزّه عن مثل مسّ خطّ القرآن قبلهما، كما سيجيء التحقيق، فتأمّل جدّا! و أمّا إذا أحدث بالأصغر، فاختلف الأصحاب فيه، قال ابن إدريس: يتمّ الغسل و لا شيء عليه، و اختاره ابن البرّاج و المحقّق الشيخ علي و بعض المحقّقين
و قال المرتضى: يتمّه و يتوضّأ ، و اختاره المحقّق و المقدّس الأردبيلي و صاحب «المدارك» و المصنّف.
و قال الشيخ في «النهاية» و «المبسوط» بوجوب الإعادة من رأس ، و هو مذهب ابني بابويه و العلّامة و جماعة منهم الشهيد.
و هو الظاهر من كلام ابن فهد ، بل الظاهر أنّه مذهب المشهور، كما ادّعاه المحقّق الشيخ علي في شرحه على «الألفيّة».
و يدلّ على وجوب الإعادة توقيفيّة العبادة، و مقتضى شغل الذمّة اليقيني، و كون العبادة اسما للصحيحة، و كون الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط، و الاستصحاب، و قولهم عليهم السّلام: «لا تنقض اليقين إلّا بيقين»
و أيضا لا شكّ في وجوب الإطاعة بالآية و الأخبار المتواترة ، و كذا مقتضى الأوامر الواردة بالغسل، و الإطاعة يرجع فيها إلى العرف، و هي الامتثال لما طلب منه و الإتيان به.
و هذا المكلّف قبل كمال الغسل يكون في عهدته الإتيان بما طلب منه، و رفع الجنابة اليقينيّة، فكذا بعد إتمام هذا الغسل الذي وقع في أثنائه الحدث الأصغر، استصحابا للحالة السابقة، و عدم دليل على خروجه عن العهدة، لعدم العلم و لا الظنّ بأنّه هو الذي طلب منه، لو لم نقل بحصول الظن بخلافه، للاستصحاب و غيره، ممّا ذكر و سنذكر.
سيّما أن يكون الباقي من جسده بعد الحدث مقدار رأس إبرة و أقلّ منه، و وقع منه أحداث كثيرة غير عديدة، فيكون اكتفى لرفع الجميع بغسل ذلك المقدار القليل غاية القلّة، و هو أمر مستبعد عند المتشرّعة بحيث يتحاشون عنه، إلّا أن يعاد الغسل أو يتوضّأ مع ذلك.
لكن بعد ملاحظة الأخبار و الفتاوى في منع الوضوء مع غسل الجنابة، و أنّه لا أثر له معه أصلا، لم يثبت كون الوضوء في المقام نافعا و مؤثّرا بانضمامه مع الباقي، إذ لا بدّ من ثبوت الرافع و المؤثّر من الشرع، بل ربّما يكون الظاهر منهما خلاف ذلك، حتّى أنّه لو تمكّن من رفع الأصغر بالوضوء دون الأكبر ورد النهي عن الوضوء و الأمر بالتيمم خاصّة. و علّل ذلك بأنّ اللّه جعل عليه نصف الوضوء[2].
ج)فيه، أنّ النجاسة الاصطلاحيّة الآن بين المتشرّعة معناها معهود معروف بينهم، ذو أحكام كثيرة شرعيّة متلازمة، أعلاها و أجلاها وجوب غسل الملاقي، بل عدم جواز الصلاة، و الأكل و الشرب مع كونهما العمدة و الأصل في النجاسة لم يجعلا نجاسة البتّة، إذ لم يقل أحد بنجاسة الحرير و الذهب و السمور، و فضلاته و فضلات أمثاله ممّا لا يؤكل لحمه، و هو طاهر على اليقين، و كذا نجاسة مثل التراب و غيره ممّا حرم أكله مع طهارته.
و من هذا اعترض المصنّف على المستدلّ بالحسن السابق على نجاسة الميّت بعدم الدلالة، لإمكان أن يكون المراد إزالة ما أصاب الثوب، ممّا على الميّت من رطوبة أو قذر تعدّيا إليه، مع أنّك عرفت أنّ المراد ليس إلّا ما ذكره، و لا يحتمل ظاهر الحديث إلّا ذلك، و هو جعل إمكان إرادته مانعا عن الدلالة على النجاسة.
مع أنّه لو كان طاهرا، فأيّ معنى لوجوب غسل ما تعدى إلى الثوب من رطوباته؟
مع أنّ الرطوبة ربّما تكون من الخارج، و كلمة (ما) من أداة العموم لغة، و على فرض الانحصار في كونها من الميّت، فالمناقشة في دلالة وجوب غسلها على النجاسة يستلزم المناقشة في جميع دلالات الأحاديث على النجاسة في جميع النجاسات.
مع أنّ المصنّف رحمه اللّه يستدلّ بالأحاديث في الكلّ، مع عدم دلالة واحد منها على النجاسة الشرعيّة، إذ غاية ما يستفاد منها وجوب الغسل و إعادة الصلاة، أو حرمة الأكل و الشرب، و أمثال ذلك، و قد عرفت الحال.[3]
د) قوله: (و خالف). إلى آخره.
أقول: الشيخ و كثير من المتقدّمين- مثل الصدوق و غيره- ذهبوا إلى طهارة اللبن الخارج من ضرع الميتة
بل و نقل في «الخلاف»- على ما حكي عنه- الإجماع على ذلك ، و كذا ابن زهرة نقل الإجماع أيضا على ما حكي عنه .
لكن ابن إدريس قال في سرائره ما نقلناه آنفا، حتّى أنّه نسب إلى الشيخ أنّه في نهايته روى الرواية الشاذّة و وافقه الفاضلان و جماعة من الأصحاب .
حجّة الأوّلين صحيحة زرارة، و صحيحة حريز السابقتان
و موثّقة الحسين بن زرارة قال: كنت عند الصادق عليه السّلام و أبي يسأله عن السنّ من الميتة، و الإنفحة من الميتة، و اللبن من الميتة، و البيض من الميتة، قال: «كلّ هذا ذكيّ»
و قال في «الفقيه»: قال الصادق عليه السّلام: «عشرة أشياء من الميتة ذكيّة: القرن، و الحافر، و العظم، و السنّ، و الإنفحة، و اللبن، و الشعر، و الصوف، و الريش،و البيض»
و حجّة الآخرين ما ذكره ابن إدريس من أنّه مائع لاقى نجس العين، و كلّ ما هو كذلك فهو نجس، و لذا لو لاقى هذا اللبن جزء من الميتة من الخارج يكون نجسا عند الأوّلين أيضا، فإنّهم يقولون بانفعال كلّ مائع نجس العين، و يقولون بأنّ الميتة تنجّس الماء القليل، بل و البئر و الكثير أيضا إذا غيّر أحد أوصافه، و يقولون بانفعال اللبن من ملاقاة أيّ نجاسة تكون.
و لو لا ما ورد من الأحاديث المذكورة، لكان حال هذا اللبن الخارج من ضرع الميتة حال اللبن الذي وقع فيه فأرة أو ميتة، أو مات فيه فأرة مثلا، بلا تأمّل منهم و لا تزلزل أصلا، و عدم التأمّل و التزلزل لا بدّ أن يكون ناشئا من دليل شرعي.
و الدليل الشرعي هو الموجود في كلّ مائع و كلّ رطب لاقى نجاسة من النجاسات، و إن كانت متنجّسة من نجاسة خارجة، فضلا عن ملاقاة نفس نجس العين، و حكمهم بذلك على سبيل الجزم و اليقين بلا تأمّل.
بل لو تأمّل أحد الآن في انفعال اللبن بموت فأرة فيه يعدّ خارجا من المذهب.
كما لو تأمّل في انفعال مائع آخر غير اللبن، و إن كان هو السمن الذي جزء اللبن و خارج عنه.
فإذا كان الحكم بهذه المثابة، فكيف يعارضه و يقاومه أخبار آحاد، مع أنّها لا تفيد سوى الظن؟ فكيف يكون حجّة مقاوما لما هو قطعي؟
ألا ترى أنّ الآن لو شرب أحد لبنا وقع فيه بول الآدمي أو عذرته، لم يكن عند المتشرّعة فرق بين هذا اللبن و الذي ماتت فيه الفأرة، أو السمن الذي ماتت فيه؟
و اعتمادهم على نجاسة هذا اللبن الذي وقع فيه بول الآدمي أو الكلب أو الخنزير أو عذرتها إن كان على الحديث، فمن المعلوم عدم تحقّق حديث يدلّ على ذلك. و إن كان من الإجماع فاعتمادهم عليه في هذا و في اللبن الذي ماتت فيه فأرة، أو وقع فيه قطعة من الكلب أو الخنزير، أو غير ذلك على حدّ سواء، من غير أن يكون في موضع موضع إجماع على حدة على حدة، مع عدم حصر المواضع الخاصّة[4].
ه)قوله: (كلّ شيء). إلى آخره.
لا يخفى أنّ من الاصول المسلّمة عند الفقهاء أصالة طهارة كلّ شيء حتّى تعلم نجاسته، لأنّ النجاسة الشرعيّة لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب في الصلاة، أو الأكل و الشرب، أو غيرهما، و الاجتناب عن ملاقيه و ملاقي ملاقيه، و هكذا ..
على ما هو المعروف عند المتشرّعة، و كلّ ذلك تكاليف شرعيّة، و الأصل عدمها حتّى يثبت.
و أيضا الأصل بقاء طهارة الأشياء الملاقية له على طهارتها الثابتة حتّى تعلم نجاستها.
و يعضدهما العمومات و المطلقات، مضافا إلى أنّ المسألة إجماعيّة بحسب الظاهر من الفقهاء[5].
و)نعم، المتشرعة ربّما يفهمون العموم من جهة رسوخ استصحاب بقاء الأحكام إلى أن يثبت خلافها في أذهانهم، بحيث يصعب عليهم فهم خلافه، و يقولون: إنّه ماء محكوم بالنجاسة عرفا، فالحكم بخلافها شرعا لا يجوز إلّا من دليل شرعي، إلى غير ذلك[6].
[1] مصابيح الظلام؛ ج۲، ص: ۲۷۴
[2] مصابيح الظلام؛ ج۴، ص: ۱۷۳-۱۷۶
[3] مصابيح الظلام، ج۴، ص: ۴۵۶-۴۵۷
[4] مصابيح الظلام؛ ج۴، ص: ۴۶۶ - ۴۶۸
[5] مصابيح الظلام؛ ج۵، ص: ۲۲۳
[6] مصابيح الظلام؛ ج۵، ص: ۳۴۴