رفتن به محتوای اصلی

صاحب حدائق

الفصل الثاني في كيفية الوضوء الواجبة

و هي تعتمد أركانا خمسة: 

الركن الأول-النية

و لا ريب ان النية - في جملة أفعال العقلاء العارية عن السهو و النسيان - مما يجزم بتصورها بديهة الوجدان، لارتكازها في الأذهان، فهي في التحقيق غنية عن البيان، فعدم التعرض لها أحرى بالدخول في حيز القبول، و من ثم خلا عن التعرض لها كلام متقدمي علمائنا الفحول، و طوي البحث عنها في اخبار آل الرسول، إلا انه لما انتشر الكلام فيها بين جملة من متأخري الأصحاب، و كان بعضه لا يخلو من اشكال و اضطراب، أحببنا الولوج معهم في هذا الباب، و تنقيح ما هو الحق عندنا و الصواب جريا على وتيرتهم (رضوان اللّٰه عليهم) فيما قعدوا فيه و قاموا، و أسامة لسرح اللحظ حيث اساموا. و قد أحببنا أن نأتي على جملة ما يتعلق بالنية من الأحكام بل كل ما له ارتباط بها في المقام و نحو ذلك مما يدخل في سلك هذا النظام على وجه لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام و فضلائنا العظام، فنقول: البحث فيها يقع في مقامات: 

(المقام الأول)-[وجوب النية]

لا ريب في وجوب النية في الوضوء بل في جملة العبادات، و الوجه فيه انه لما كان الفعل من حيث هو ممكن الوقوع على أنحاء شتى - و لا يعقل انصرافه إلى شيء منها إلا بالقصد إلى ذلك الشيء بخصوصه، و لا يترتب عليه أثره إلا بذلك، مثلا - الدخول تحت الماء من حيث هو صالح لأن يقصد به التبرد أو التسخن تارة، و ازالة الوسخ اخرى و الغسل مثلا، و إخراج شيء من الماء و نحو ذلك، فلا ينصرف إلى واحد من هذه الأشياء أو أزيد إلا بنيته و قصده. و مثل ذلك لطمة اليتيم تأديبا و ظلما و هكذا جميع أفعال العقلاء من عبادات و غيرها لا يمكن تجردها و خلوها من النية و القصد بالكلية، و إلى ذلك يشير ما صرح به بعض فضلائنا و استحسنه آخرون، من انه لو كلفنا اللّٰه العمل بلا نية لكان تكليفا بما لا يطاق - فالعبادة لا تكون عبادة يترتب عليها أثرها و يمتاز بعض أصنافها عن بعض إلا بالقصود و النيات ففي العبادة الواجبة تكون النية واجبة شرطا أو شطرا، لعدم تعينها - كما عرفت - و تشخصها إلا بها، و في المندوبة تكون من شروط صحتها جزء كانت أو خارجة، كغيرها من الأفعال التي لا تصح إلا بها. و عدم الاتصاف بالوجوب فيها - و لا في غيرها مما هو واجب في الفريضة و شرط في صحتها -انما هو من حيث انه لا يعقل وجوب الشرط أو الجزء مع ندبية المشروط أو الكل، و ربما عبروا عن مثل ذلك بالوجوب الشرطي. 

و يدل على أصل ما قلناه ما رواه في التهذيب[1] مرسلا عنه (صلى اللّٰه عليه و آله) من قوله: «إنما الأعمال بالنيات». 

و قوله (صلى اللّٰه عليه و آله): «انما لكل امرئ ما نوى». 

و قول علي بن الحسين (عليهما السلام) في حسنة الثمالي: «لا عمل إلا بنية» فإن الظاهر ان المراد بالنية هنا المعنى اللغوي. لأصالة عدم النقل، بمعنى إنما الأعمال حاصلة بالقصود و النيات، و انما لكل امرئ ما قصده، و انه لا عمل حاصل إلا متلبسا بقصد و نية. فالأول و الثالث صريحا الدلالة في عدم حصول العمل بالاختيار من النفس إلا بقصدها إلى إصداره، و الثاني صريح في ان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما قصده، كما يدل عليه السبب فيه، و ينادي به تتمته من قوله (صلى اللّٰه عليه و آله): «فمن كانت هجرته إلى اللّٰه و رسوله فهجرته إلى اللّٰه و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه»[2]. و من هنا يعلم ان مدار الأعمال - وجودا و عدما و اتحادا و تعددا و جزاءها ثوابا و عقابا - على القصود و النيات. 

و بما ذكرنا ثبت ما ادعيناه من ضرورية النية في جميع الأعمال، و عدم احتياجها الى تكلف و احتمال، و وجوبها في جميع العبادات المترتب صحتها عليها، فإن الأعمال كالاشباح و القصود لها كالارواح. 

هذا و جملة من أصحابنا (رضوان اللّٰه عليهم) لما حكموا بوجوب النية في جميع العبادات و فسروها بالمعنى الشرعي، أشكل عليهم الاستدلال على الوجوب: 

فاستدل بعض - منهم: السيد السند في المدارك - على ذلك بما قدمنا من الاخبار، و اعترضه آخرون بمنع ذلك، قالوا: لان الظاهر من الحصر في حديثي «إنما الأعمال بالنيات».و «لا عمل إلا بنية»[3] انتفاء حقيقة العمل عند انتفاء النية، و هو باطل، فلما تعذر الحمل على الحقيقة فلا بد من المصير إلى أقرب المجازات. و التجوز بالحمل على نفي الصحة - كما يدعيه المستدل - ليس اولى من الحمل على نفي الثواب. و لو قيل:

ان الأول أقرب إلى الحقيقة، عورض بان حملهما عليه يستلزم التخصيص في الأعمال، فإنها أعم من العبادات التي هي محل الاستدلال، فيخرج كثير من الأعمال حينئذ من الحكم. 

و اما الحديث الثالث[4] فلا انطباق له على مدعاهم بالكلية، لما أوضحناه سابقا مؤيدا بتتمته و علته[5].

نعم ربما يستدل لهم بما رواه الشيخ (رحمه اللّٰه) في كتاب الأمالي[6] بسنده فيه عن أبي الصلت عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّٰه (صلى اللّٰه عليه و آله) قال: «لا قول إلا بعمل، و لا قول و عمل إلا بنية، و لا قول و عمل و نية إلا بإصابة السنة». 

و ما رواه في كتاب بصائر الدرجات[7] بسنده فيه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّٰه (صلى اللّٰه عليه و آله): لا قول الا بعمل، و لا عمل إلا بنية، و لا عمل و نية إلا بإصابة السنة». 

فان الظاهر من سياق الخبرين ان المراد بالعمل فيهما العبادة، و حينئذ فالنية عبارة عن المعنى الشرعي المشترط في صحة العبادة. 

(المقام الثاني)-[محل النية]

قد عرف جملة من أصحابنا النية شرعا بأنها القصد المقارن للفعل، قالوا: فلو تقدمت و لم تقارن سمى ذلك عزما لا نية. و أصل هذا التعريف للمتكلمين، فإنهم - على ما نقل عنهم - عرفوها بأنها الإرادة من الفاعل للفعل بالمقارنة له و للأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم) في بيان المقارنة في نية الصلاة اختلاف فاحش: قال العلامة (رحمه اللّٰه) في التذكرة: «الواجب اقتران النية بالتكبير، بان يأتي بكمال النية قبله ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل، و هذا تصح صلاته إجماعا» قال: «و لو ابتدأ بالنية بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثم فرغ منهما دفعة واحدة، فالوجه الصحة». 

و نقل الشهيد (رحمه اللّٰه) عن بعض الأصحاب انه أوجب إيقاع النية بأسرها بين الألف و الراء، قال: «و هو - مع العسر - مقتض لحصول أول التكبير بلا نية» و نقل السيد السند في المدارك عن العلامة و الشهيد انهما أوجبا استحضار النية إلى انتهاء التكبير، لان الدخول في الصلاة إنما يتحقق بتمام التكبير.

و رده بلزوم العسر، و ان الأصل براءة الذمة عن هذا التكليف، و ان الدخول في الصلاة يتحقق بالشروع في التكبير، لانه جزء من الصلاة بإجماعنا، فإذا قارنت النية أوله فقد قارنت أول الصلاة، لأن جزء الجزء جزء، و لا ينافي ذلك توقف التحريم على انتهائه. انتهى. 

و في البال اني وقفت منذ مدة على كلام للعلامة (رضي اللّٰه عنه) الظاهر انه في أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنة، قال (رحمه اللّٰه) حكاية عن نفسه: 

«انى أتصور الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ثم اقصد إليها، فاقارن بها النية» و الكتاب لا يحضرني الآن لا حكي صورة عبارته و لكن في البال ان حاصله ذلك. 

أقول: لا يخفى عليك - بعد تأمل معنى النية و معرفة حقيقتها - ان جملة هذه الأقوال بعيدة عن جادة الاعتدال، فإنها مبنية على ان النية عبارة عن هذا الحديث النفسي و التصوير الفكري، و هو ما يترجمه قول المصلي - مثلا -: «أصلي فرض الظهر أداء لوجوبه قربة إلى اللّٰه» و المقارنة بها بان يحضر المكلف عند ارادة الدخول في الصلاة ذلك بباله و ينظر اليه بفكره و خياله، ثم يأتي - بعد الفراغ من تصويره بلا فصل - بالتكبير كما هو المجمع على صحته عندهم، أو يبسط ذلك على التلفظ بالتكبير و يمده بامتداده كما هو القول الآخر، أو يجعله بين الالف و الراء كما هو القول الثالث. و كل ذلك محض تكلف و شطط، و غفلة عن معنى النية أوقع في الغلط، فإنه لا يخفى على المتأمل انه ليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه و قعوده و اكله و شربه و ضربه و مغداه و مجيئه و نحو ذلك. و لا ريب ان كل عاقل غير غافل و لا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا مع قصد و نية سابقة عليه ناشئة من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة و الأسباب الحاملة له على ذلك الفعل، بل هو أمر طبيعي و خلق جبلي لو أراد الانفكاك عنه لم يتيسر له إلا بتحويل النفس عن تلك الدواعي الموجبة و الأسباب الحاملة، و لهذا قال بعض من عقل هذا المعنى من الأفاضل - كما قدمنا نقله عنه -: «لو كلفنا العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطلق» و مع هذا لا نرى المكلف في حال ارادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النية و لا اشكال و لا وسوسة و لا فكر و لا ملاحظة مقارنة و لا غير ذلك مما اعتبروه في ذلك المجال، مع ان فعله واقع بنية و قصد مقارن البتة، فإذا شرع في شيء من العبادات اضطرب في أمرها و حار في فكرها، و ربما اعتراه في تلك الحال الجنون مع كونه في سائر أفعاله على غاية من الرزانة و السكون، و هل فرق بين العبادة و غيرها إلا بقصد القربة و الإخلاص فيها لذي الجلال‌؟ و هو غير محل البحث عندهم في ذلك المجال، مع انه أيضا لا يوجب تشويشا في البال و لا اضطرابا في الخيال. 

و ان أردت مزيد إيضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك، إذا كنت جالسا في مجلسك و دخل عليك رجل عزيز حقيق بالقيام له و التواضع، ففي حال دخوله قمت له إجلالا و إعظاما كما هو الجاري في رسم العادة، فهل يجب عليك أن تتصور في بالك «أقوم تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك قربة إلى اللّٰه»؟ و إلا لكان قيامك له من غير هذا التصور خاليا من النية، فلا يسمى تواضعا و لا يترتب عليه ثواب و لا مدح، أم يكفي مجرد قيامك خاليا من هذا التصور، و انه واقع بنية و قصد على جهة الإجلال و الإعظام الموجب للمدح و الثواب، و من المقطوع به انك لو تكلفت تخيل ذلك بجنانك و ذكرته على لسانك لكنت سخرية لكل سامع و مضحكة في المجامع، و هذا شأن النية في الصلاة أيضا، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا و هو عالم بوجوب ذلك الفرض سابقا و عالم بكيفيته و كميته. و كان الغرض الحامل له على الإتيان به الامتثال لأمر اللّٰه سبحانه مثلا، ثم قام عن مكانه و سارع إلى الوضوء، ثم توجه إلى مسجده و وقف في مصلاه مستقبلا، و أذن و أقام ثم كبر و استمر في صلاته، فان صلاته صحيحة شرعية مشتملة على النية و القربة. 

و ان أردت مزيد إيضاح لمعنى النية فاعلم ان النية المعتبرة مطلقا إنما هي عبارة عن انبعاث النفس و ميلها و توجهها إلى ما فيه غرضها و مطلبها عاجلا أو آجلا، و هذا الانبعاث و الميل إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه و اكتسابه بمجرد النطق باللسان أو تصوير تلك المعاني بالجنان هيهات هيهات، بل ذلك من جملة الهذيان، مثلا - إذا غلب على قلب المدرس أو المصلي حب الشهرة و حسن الصيت و استمالة القلوب اليه لكونه صاحب فضيلة أو كونه ملازم العبادة، و كان ذلك هو الحامل له على تدريسه أو عبادته، فإنه لا يتمكن من التدريس أو الصلاة بنية القربة أصلا و ان قال بلسانه أو تصور بجنانه «أصلي أو أدرس قربة الى اللّٰه» و ما دام لم يتحول عن تلك الأسباب الأولة و ينتقل عن تلك الدواعي السابقة إلى غيرها مما يقتضي الإخلاص له تعالى، فلا يتمكن من نية القربة بالكلية، و حينئذ فإذا كانت النية إنما هي عبارة عن هذا القصد البسيط الذي لا تركيب فيه بوجه، و لا يمكن مفارقته لصاحبه بعد تصور تلك الأسباب الحاملة على الفعل إلا بعد الدخول في الفعل، فكيف يتم ما ذكروه من معاني المقارنة المقتضية للتركيب و حصول الابتداء فيه و الانتهاء، بامتداده بامتداد التكبير و انحصاره بين حاصرين من الهمزة و الراء؟ الى غير ذلك من التخريجات العرية عن الدليل، و التمحلات الخارجة عن نهج السبيل، الموقعة للناس في تيه الحيرة و الالتباس و الوقوع في شباك الوسواس الخناس[8]


[1]  ج ١ ص ٦٣، و في الوسائل في الباب - ٥ - من أبواب مقدمة العبادات. 

[2]  رواه في الوافي ج ٣ ص ٧١ و في المستدرك ج ١ ص ٨. 

[3]  المرويين في الوسائل في الباب - ٥ - من أبواب مقدمة العبادات.

[4]  و هو قوله (ع): «انما لكل امرئ ما نوى» المتقدم في الصحيفة ١٧١. 

[5]  المتقدمة في الصحيفة ١٧٢. 

[6]  في الصحيفة ٢١٥، و في الوسائل عن غير الأمالي في الباب - ٥ - من أبواب مقدمة العادات. 

[7]  في الصحيفة ٣، و في الوسائل في الباب - ٥ - من أبواب مقدمة العبادات.

[8] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، جلد: ۲، صفحه:۱۷۰-۱۷۶