رفتن به محتوای اصلی

بخش چهارم: کلمات علماء اهل سنّت

فإن قالوا: إن النبي (ص) لم يوص إلى أحد، و خلاهم و الكتاب الذي فيه تبيان‏ كل‏ شي‏ء، و السنة التي جعلها أصلا.

فالحجة عليهم أنه قد أوصاهم بالتمسك به و برجل من عترته يبينه لهم، فإن في القرآن المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ، و اختلفت الأمة في التأويل و التفسير، و احتاجت إلى من يقيمه، و يشرح ما فيه من الحلال و الحرام، و المحكم و المتشابه، فاختلفوا، لأن القرآن لا يشرح ما فيه، و كيف يأمر (ص) بالوصية، و يدعها و يهمل أمر أمته، و أمر أزواجه و ولده، و قد كان قول الله تعالى‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة موجبا للتأسي، فكيف نتأسى بمن يأمر بالشي‏ء و لا يأتيه؟![1]

فإن احتج محتج من أهل الإلحاد و العناد بالكتاب و أنه الحجة التي يستغنى بها عن الأئمة الهداة لأن فيه تبيانا لكل شي‏ء و لقول الله عز و جل‏ ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء

 قلنا له أما الكتاب فهو على ما وصفت فيه تبيان‏ كل‏ شي‏ء منه منصوص مبين و منه ما هو مختلف فيه فلا بد لنا من مبين يبين لنا ما قد اختلفنا فيه إذ لا يجوز فيه الاختلاف لقوله عز و جل‏ و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا و لا بد للمكلفين من مبين يبين ببراهين واضحة تبهر العقول و تلزم بها الحجة كما لم يكن فيما مضى بد من مبين لكل أمة ما اختلف فيه من كتابها بعد نبيها و لم يكن ذلك لاستغناء أهل التوراة بالتوراة و أهل الزبور بالزبور و أهل الإنجيل بالإنجيل و قد أخبرنا الله عز و جل عن هذه الكتب أن فيها هدى و نورا يحكم بها النبيون و أن فيها حكم ما يحتاجون إليه.[2]

١٥٩٥ - أخبرنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، فيما أذن لنا أن نرويه عنه إجازة قال: أنا أبو العباس أحمد بن موسى الباغندي بجرجان قراءة عليه ثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد الفقيه، ثنا داود بن علي بن خلف قال: حدثنا قبيصة قال: نا سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح، أن عمر، كتب إليه: «إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب ولم يسن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما اجتمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد فأي الأمرين شئت فخذ به» قال أبو عمر هكذا روي عن داود هذا الحديث، ألفاظه مخالفة لما رواه الثقات الحفاظ، وفيه رد على من قال: إن كل نازلة تنزل بالناس ففي كتاب الله؛ لقوله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: ٣٨] ، و {تبيانا لكل شيء[3]} [النحل: ٨٩]

٥٦٣٣ - كما حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان الثوري، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين، أن وفد بني تميم، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أبشروا يا بني تميم "، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه وفد أهل اليمن، فقال: " أبشروا يا أهل اليمن، اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم "، فقالوا: قبلنا يا رسول الله، ثم حدث، فقال لي رجل: قد ذهب بعيرك , فليته كان ذهب ولم أقم

 فكان في هذا الحديث الذي رواه صفوان عمن رواه عنه، عن عمران ممن يريد كتاب الله في الذكر كل شيء قبل خلقه السماوات والأرض، فكان معقولا بما في هذا الحديث: أن الذكر المراد في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} [الأنبياء: ١٠٥] ، أن  ذلك الذكر هو المكتوب قبل خلق السماوات والأرض، وأن الأشياء المذكورة بعده هي ما سواه من التوراة، والإنجيل، والقرآن. وأما اللغويون: فكانوا يذهبون إلى أن الذكر المراد في هذه الآية هو الفرقان، ويحتجون في ذلك بقوله: {ص والقرآن ذي الذكر} [ص: ١] ، وبقوله عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر} [النحل: ٤٣] ، وبقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: ٩] ، وبقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} [يس: ٦٩] ، فكان في هذه الآيات ما قد دل: أن الذكر المذكور فيها هو القرآن، وكانوا يقولون في ذلك: إنهم وجدوا حروف الخفض يعاقب بعضها بعضا، فيخاطب فيها ببعد لما يراد به: قبل، وبقبل مما يراد به: بعد، وكان ذلك موجودا في كلام العرب، وكان الذي دل عليه ما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما قد ذكرنا أولى بالتأويل لهذه الآية مما قالوا، إذ كان ما قالوا لم تدع إليه ضرورة توجب حمل الأمر على ما حملوه عليه، وبالله التوفيق[4]

الاتقان فی علوم القرآن

النوع الخامس والستون: في العلوم المستنبطة من القرآن

قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}

وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن" قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره.

وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين" قال: البيهقي: يعني أصول العلم.

وأخرج البيهقي عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان.

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن

وقال أيضا: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن

قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم

وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لى وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله.

وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله تعالى أخرجهما ابن أبي حاتم. وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وفرض علينا الأخذ بقوله.

وقال الشافعي مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب الله فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال بسم الله الرحمن الرحيم: {آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}

وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر"

وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور

وأخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: "لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى" فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت كيت! فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه كما تقول قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} قالت بلى قال: فإنه قد نهى عنه

وحكى ابن سراقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يوما: ما شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله فقيل له فأين ذكر الخانات فيه؟ فقال في قوله: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم} فهي الخانات.

وقال ابن برجان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن به أو فيه أصله قرب أو بعد فهمه من فهمه وعمه عنه من عمه وكذا كل ما حكم به أو قضى وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه.

وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.

وقال ابن الفضل المرسي في تفسيره: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى ثم ورث ذلك عنه معظم سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء

واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة

واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العلم بأصول الدين.

وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص "الاجتهاد" والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن أصول الفقه.

وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فأسسوا أصوله وفرعوا فروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضا

وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال وتكاد تدكدك الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولا من المواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك الخطباء والوعاظ

واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه تعبير الرؤيا واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله" {وأمر بالعرف} وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول واستخرجوا منه أحكام الوصايا.

ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت.

ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.

ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه

وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وذلك إنما باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله تعالى: {وكان بين ذلك قواما} وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى: {شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور.

وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.

وأما الهندسة ففي قوله: {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب} الآية.

وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم نمرود ومحاجته قومه أصل في ذلك عظيم.

وأما الجبر والمقابلة فقد قيل إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض

وأما النجامة ففي قوله: {أو أثارة من علم} فقد فسره بذلك ابن عباس.

وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها كالخياطة في قوله: {وطفقا يخصفان} والحدادة {آتوني زبر الحديد} ؛ {وألنا له الحديد} الآية

والبناء في آيات

والنجارة {واصنع الفلك بأعيننا}

والغزل {نقضت غزلها}

والنسج {كمثل العنكبوت اتخذت بيتا}

والفلاحة {أفرأيتم ما تحرثون} الآيات

والصيد في آيات

والغوص {كل بناء وغواص} {وتستخرجوا منه حلية}

والصياغة {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا}

والزجاجة {صرح ممرد من قوارير} {المصباح في زجاجة}

والفخارة {فأوقد لي يا هامان على الطين}

والملاحة {أما السفينة} الآية

والكتابة {علم بالقلم}

والخبز {أحمل فوق رأسي خبزا}

والطبخ {بعجل حنيذ}

والغسل والقصارة {وثيابك فطهر} قال الحواريون: وهم القصار ون

والجزارة {لا ما ذكيتم}

والبيع والشراء في آيات

والصبغ {صبغة الله} ؛ {جدد بيض وحمر}

والحجارة {وتنحتون من الجبال بيوتا} والكيالة والوزن في آيات

والرمي {وما رميت إذ رميت} ، {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}

وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} انتهى كلام المرسي ملخصا.

وقال ابن سراقة: من بعض وجوه إعجاز القرآن ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب والجمع والقسمة والضرب والموافقة والتأليف والمناسبة والتنصيف والمضاعفة ليعلم بذلك أهل العلم بالحساب أنه صلى الله عليه وسلم صادق في قوله وأن القرآن ليس من عنده إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تلقى الحساب وأهل الهندسة.

وقال الراغب: إن الله تعالى كما جعل نبوة النبيين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مختتمة وشرائعهم بشريعته من وجه منتسخة ومن وجه مكملة متممة جعل كتابه المنزل عليه متضمنا لثمرة كتبه التي أولادها أولئك كما نبه عليه بقوله: {يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة} وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه والآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبه عليه بقوله: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} فهو وإن كان لا يخلو للناظر فيه من نور ما يريه ونفع ما يوليه:

كالبدر من حيث التفت رأيته

يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا

كالشمس في كبد السماء وضوءها

يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال قيل لموسى عليه السلام: يا موسى إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينها من روابط وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله قال وأما علوم القرآن فثلاثة توحيد وتذكير وأحكام فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله والتذكير منه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن والأحكام منها التكاليف كلها وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن لأن فيها الأقسام الثلاثة وسورة الإخلاص ثلثه لاشتمالها على أحد الأقسام الثلاثة وهو التوحيد.

وقال ابن جرير: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء التوحيد والأخبار والديانات ولهذا كانت سورة الإخلاص ثلثه لأنها تشمل التوحيد كله.

وقال علي بن عيسى القرآن يشتمل على ثلاثين شيئا: الإعلام والتشبيه والأمر والنهي والوعد والوعيد ووصف الجنة والنار وتعلم الإقراء بسم الله وبصفاته وأفعاله وتعليم الاعتراف بإنعامه والاحتجاج على المخالفين والرد على الملحدين والبيان عن الرغبة والرهبة والخير والشر والحسن والقبيح ونعت الحكمة وفصل المعرفة ومدح الأبرار وذم الفجار والتسليم والتحسين والتوكيد والتقريع والبيان عن ذم الأخلاق وشرف الآداب.

وقال شيذلة: وعلى التحقيق أن تلك الثلاثة التي قالها ابن جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها فإن القرآن لا يستدرك ولا تحصى عجائبه

وأنا أقول قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السالفة كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وغرق قوم نوح وقصة عاد الأولى والثانية وثمود والناقة وقوم يونس وقوم شعيب الأولين والآخرين وقوم لوط وقوم تبع وأصحاب الرس وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرته نمروذ ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتل القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه بنت شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته مع الخضر وقصته في قتال الجبارين وقصة القوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مغرب الشمس ومطلعها وبنائه السد وقصة أيوب وذي الكفل وإلياس وقصة مريم وولادتها وعيسى وإرساله ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل

وفيه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم به وبشارة عيسى وبعثه وهجرته ومن غزواته سرية ابن الحضرمي في البقرة وغزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والحديبية في الفتح والنضير في الحشر وحنين وتبوك في براءة وحجة الوداع في المائدة ونكاحه زينب بنت جحش وتحريم سريته وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود إياه

وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعد وصعودها إلى السماء وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى وهي نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن والخسف وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة وأحوال البعث من النفخات الثلاث نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام والحشر والنشر وأهوال الموقف وشدة حر الشمس وظل العرش والميزان والحوض والصراط والحساب لقوم ونجاة آخرين منه وشهادة الأعضاء وإتيان الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة والمقام المحمود؛ والجنة وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤيته تعالى والنار وأبوابها وما فيها من الأودية وأنواع العقاب وألوان العذاب والزقوم والحميم

وفيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث ومن أسمائه مطلقا ألف اسم ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم جملة

وفي شعب الإيمان البضع والسبعون وشرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات وقد أفرد الناس كتبا فيما تضمنه القرآن من الأحكام كالقاضي إسماعيل وبكر بن العلاء وأبي بكر الرازي والكيا الهراسي وأبي بكر بن العربي وعبد المنعم بن الفرس وابن خويز منداد وأفرد آخرون كتبا فيما تضمنه من علم الباطن وأفرد ابن برجان كتابا فيما تضمنه من معاضدة الأحاديث وقد ألفت كتابا سميته الإكليل في استنباط التنزيل ذكرت فيه كل ما استنبط منه من مسألة فقهية أو أصلية أو اعتقا دية وبعضا مما سوى ذلك كثير الفائدة جم العائدة يجري مجرى الشرح لما أجملته في هذا النوع فليراجعه من أراد الوقوف عليه[5].

ابجد العلوم

فصل
قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} وقال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون فتن", قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره.

وقال أبو مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين أخرجه سعيد بن منصور في سننه قال البيهقي: أراد به أصول العلم.

وقال بعض السلف: ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى

وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم.

وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنزل في هذا القرآن كل علم وميز لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن 

اخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة" أخرجه أبو الشيخ في كتاب: العظمة.

وقال الشافعي: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ما فهمه من القرآن قلت: ويؤيد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها لا يقال: إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع من القرآن وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه ولهذا نهى عن التقليد وجميع السنة شرح للقرآن وتفسير للفرقان.

قال الشافعي مرة بمكة المكرمة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.

فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور.

فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده أنه قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات وغيرهن واستدلاله بالآية الكريمة المذكورة وهي معروفة رواها البخاري.
ونحوه حكاية المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بالقرآن وهي:

أنها قال عبد الله بن المبارك: خرجت قاصدا بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فبينما أنا سائر في الطريق

 وإذا بسواد فمررت به وإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت: {سلام قولا من رب رحيم} فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المكان؟

فقالت: {من يضلل الله فلا هادي له} فقلت: أنها ضالة عن الطريق فقلت: أين تريدين؟

فقالت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} فعلمت أنها قضت حجها وتريد بيت المقدس فقلت: أنت مذ كم في هذا المكان؟

فقالت: ثلاث ليال سويا فقلت أما أرفعك طعاما.

فقالت: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فقلت لها ليس هذا شهر رمضان.

فقالت: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر.

فقالت: {وأن تصوموا خير لكم} فقلت لها لم لا تكلميني مثل ما أكلمك به فقالت: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فقلت لها: من أي الناس أنت؟

فقالت: {ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} فقلت لها: قد أخطأت فاجعلني في حل. فقالت:

 لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم قلت لها: هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة؟

قالت: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} فأنخت مطيتي لها.

فقالت: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} فغضضت بصري عنها فقلت: اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها ومزقت ثيابها.

فقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فقلت لها: اصبري حتى أعقلها.

 لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون} فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح طربا.

فقالت لي: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} فجعلت أمشي وأترنم بالشعر.

فقالت: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} فقلت: ليس هو بحرام.

قالت: {وما يذكر إلا أولو الألباب} فطرقت عنها ساعة فقلت لها: هل لك ربع؟

قالت: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} فسكت عنها ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة فقلت: لها هذه القافلة فمن لك فيها؟

فقالت: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} فعلمت أن لها أولادا ومالا فقلت لها: ما شأنهم في الحاج؟

قالت: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بي القبابات والعمارات فقلت: من لك فيها؟

فقالت: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} {وكلم الله موسى تكليما} {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} فناديت: يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فجاءوني بالتلبية فإذا هم شبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت لهم: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف} فقام أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي وقالت:{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} فقلت لهم: طعامكم هذا علي حرام حتى تخبروني بامرأتكم هذه فقالوا: هذه لها أربعون سنة ما تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء -. انتهت الحكاية١ وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء.

قال بعض السلف: ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين سنة من قوله تعالى في سورة المنافقين: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فإنها رأس ثلاث وستين وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.

قال المرسي: جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتقال أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علمه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتزم قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعدد كلماته وآياته وسوره وأجزائه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهات والآيات المتماثلات من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا: القراء[6].

الاعجاز العلمی فی القرآن الکریم

 التوسع في هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به

لقد اتسع القول في احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن في نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل إلى جانب العلوم الدينية ال اعتقادية، والعملية سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها. وممن توسعوا في التفسير العلمي الإمام الغزالي. الإمام الغزالي كان إلى عهده أكثر من استوفى بيان هذا القول في تفسير القرآن الكريم، وأهم من أيده وعمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن الكريم.

وكتاب (الإحياء في علوم الدين) ينقل فيه عن بعض العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. ثم يروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله -عز وجل- وصفاته. وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، ثم يزيد على ذلك فيقول: بل كل ما أشكل فهمه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن، إليه رمز ودلالات عليه. يختص أهل الفهم بدركها"، ثم لو تصفحنا كتاب الغزالي (جواهر القرآن)، الذي ألفه بعد (إحياء علوم الدين)، فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانا وتفصيلا، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها.

ونكتفي بأن نقول: إن الغزالي قسم علوم القرآن إلى قسمين: الأول: علم القشر يعني السطحيات، وجعل من مشتملاته علم اللغة وعلم النحو وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر. والقسم الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السنة، ثم بعد ذلك يعقد الفصل الخامس من كتابه (جواهر القرآن) لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن الكريم. فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة أجسام الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها. ثم بعد ذلك يقول: ولا حاجة لي إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة، التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها. وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها. وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله -سبحانه- هو الذي لا يتناهى العلم في حقه.

ثم يقول بعد ذلك: ثم هذه العلوم ما عددناه وما لم نعدده ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مقترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال يقول: وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد. فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلا الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء: ٨٠)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله. إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} (الرحمن: ٥). وقال تعالى: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس: ٥)، وقال تعالى: {وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر} (القيامة: ٨، ٩)، وقال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار} (الحج: ٦١). وقال تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} (يس: ٣٨)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض.

وهو علم برأسه ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك} (الانفطار: ٦ - ٨)، إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. وقد أشار في القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف معنى قوله تعالى: {سويته ونفخت فيه من روحي} (الحجر: ٢٩) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها. يقول الغزالي: ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين". بهذا نعرف أن الغزالي كان من المكثرين في القول بالتفسير العلمي، ومن المؤيدين له.

بعد ذلك نذهب إلى إمام آخر نحى منحى الغزالي في القول بالتفسير العلمي وهو الجلال السيوطي، فنجده يقرر ذلك بوضوح وتوسع في كتابه (الإتقان) في النوع الخامس والستين منه. كما يقرر ذلك أيضا بمثل هذا الوضوح والتوسع في كتابه (الإكليل في استنباط التنزيل)، ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.

فمن الآيات نجد قول الله تعالى في الآية ٣٨ من سورة الأنعام: {ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم} (الأنعام: ٣٨) وقوله في الآية ٨٩ من سورة النحل: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي} (النحل: ٨٩). ومن الأحاديث التي ساقها، ويستدل بها على أن القرآن مشتمل على كل العلوم: ما أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ستكون فتن قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم)). وكذلك أيضا ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة)) ومن الآثار ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين". وما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "أنزل الله في القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن".

ثم نجد السيوطي بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها، يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة، من قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة المنافقون يقول: {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} (المنافقون: ١١). فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها أي ذكر بعدها سورة التغابن؛ ليظهر التغابن في فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

بعد أن ذكرنا الجلال السيوطي وكثرته من القول في التفسير العلمي نأتي بعد ذلك إلى عالم آخر يقرر ما قرره السيوطي وما قرره الغزالي، هذا العالم هو أبو الفضل المرسي. لقد ذكر عن أبي الفضل المرسي أنه قال في تفسيره: "جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، وهو الله سبحانه، ثم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلا ما استأثر به -سبحانه وتعالى-. ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنه التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه. فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه. ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء، واعتنى النحاة بالمعرب منه، والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به....

قال السيوطي: انتهى كلام أبي الفضل المرسي ملخصا مع زيادة". ثم بعد رواية السيوطي لهذه المقالة الطويلة نجده يذكر عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه (قانون التأويل): "علوم القرآن خمسون علما، وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار الترتيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يحصى وما لا يعلمه إلا الله". وأخيرا عقب السيوطي على هذه النقول وغيرها، فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواعه فليس منها باب ولا مسألة هي أصلا وإلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت الثرى. وإلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات".

ومن هنا يتبين كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين في تفسير القرآن الكريم وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها ما جد، وما يجد إلى يوم القيامة، هذه النزعة التفسيرية العلمية للقرآن الكريم تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا. وفي بداية الأمر كانت عبارة عن محاولات يقصد منها التوفيق بين القرآن، وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالي وابن العربي والمرسي والسيوطي، وهذه الفكرة قد طبقت علميا. وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن، ثم وجدت بعد ذلك كتب مستقلة لاستخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم. وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر رواجا كبيرا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما ألفت بعض التفاسير التي تسير على ضوء هذه الفكرة. هؤلاء هم المؤيدون للتفسير العلمي[7].


[1]  المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ ص۵۶۶-۵۶٧

[2] كمال الدين و تمام النعمة ؛ ج‏2 ؛ ص۶۶۳

[3] كتاب جامع بيان العلم وفضله ، ص ٨۴۶

[4] كتاب شرح مشكل الآثار، ص ٣٠٣

[5] كتاب الإتقان في علوم القرآن، ص ٢٨-۴٠  و همین طور: كتاب الإكليل في استنباط التنزيل للسیوطی، ص ١٣ و الحاوی للفتاوی‌،‌ ص ١٩٣

[6] كتاب أبجد العلوم، ص ص۳۴۵-۳۴۷

[7] كتاب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم جامعة المدينة ، ص ٩-١٨