رفتن به محتوای اصلی

سید مرتضی

الانتصار

و مما ظن انفراد الإمامية به: القول بأن صوم التطوع يجزئ عنه نيته بعد الزوال، لأن الثوري يوافق في ذلك، و يذهب إلى أن صوم التطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه، و هو أحد قولي الشافعي أيضا .

و باقي الفقهاء يمنعون من ذلك و يقولون: إذا نوى التطوع بعد الزوال لم يجزئه

دليلنا: الإجماع الذي تقدم، و قوله تعالى «وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» ، و كل ظاهر لقرآن أو سنة يقتضي الأمر بالصوم و الترغيب فيه لا اختصاص له بزمان دون غيره فهو يتناول ما بعد الزوال و قبله. و لا يلزم على ذلك صوم الفرض لأنه لا يجزئ عندنا إلا بنية قبل الزوال، لأنا أخرجناه بدليل و لا دليل فيما عداه.

و أقوى ما تعلقوا به أن ما مضى من النهار قبل النية لا يكون فيه صائما، فكيف يتغير باستئناف النية؟

و الجواب عن ذلك أن ما مضى يلحق في الحكم بما يأتي، كما يقولون كلهم فيمن نوى التطوع قبل الزوال.

فإن فرقوا بين الأمرين بعد الزوال و قبله بأن قبل الزوال مضى أقل العبادة و بعده مضى أكثرها، و الأصول تفرق بين القليل و الكثير في هذا الحكم، كمن أدرك الإمام بعد الركوع و قبله.

قلنا: إذا كانت العبادة قد مضى جزء منها و هو خال من هذه النية و أثرت النية المستأنفة حكما في الماضي، فلا فرق بين القلة و الكثرة في هذا المعنى، لأن القليل كالكثير في أنه وقع خاليا. و ألحقناه من طريق الحكم بالباقي، لأن تبعيض الصوم غير ممكن، و إذا أثرت النية فيما صاحبته من الزمان و ما يأتي بعده فلا بد من الحكم بتأثيرها في الماضي، لأنه يوم واحد لا يلحقه تبعيض.

و قد جوزوا كلهم أن يفتتح الرجل الصلاة منفردا ثم يأتم به بعد ذلك مؤتم فيكون جماعة، و لم يفرقوا بين أن يمضي الأكثر أو الأقل، و جوز الشافعي و أبو حنيفة و أكثر الفقهاء أن يفتتح الصلاة منفردا ثم ينقلها إلى الجماعة فيصير لها حكم الجماعة، و لم يفرقوا بين مضي الأكثر أو الأقل.

و لا يلزم على ما قلناه أن تكون النية في آخر جزء من اليوم، لأن محل النية يجب أن يكون بحيث يصح وقوع الصوم بعده بلا فصل، و ذلك غير متأت في آخر جزء.

و لا يعترض ما ذهبنا إليه روايتهم عن النبي (عليه السلام) قوله: لا صيام لمن‌

لم يبيت الصيام من الليل

لأنه أولا خبر واحد، و قد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة.

و لأنا نحمله على الفضل و الكمال، كما قال (عليه السلام): لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ، و لا صدقة و ذو رحم محتاج

و قد قيل: إنه محمول على الصوم الذي يثبت في الذمة، مثل قضاء شهر رمضان و صوم النذور و الكفارات[1].

مسألة [۷۹] [كفاية نية واحدة لشهر رمضان]

و مما ظن انفراد الإمامية به: القول بأن نية واحدة في أول شهر رمضان تكفي للشهر كله و لا يجب تجديد النية لكل يوم. و مالك  يوافق على هذا المذهب، و إن خالف باقي الفقهاء فيه .

و الحجة في ذلك: إجماع الطائفة، و أيضا فإن النية تؤثر في الشهر كله لأن حرمته حرمة واحدة، كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه[2].

رسائل الشریف المرتضی

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

أما بعد:فاني وقفت على المسائل التي ضمنها الشريف (أدام اللّٰه عزه) كتابه، و سررت شهد اللّٰه تعالى بما دلتني عليه هذه المسائل من كثرة تدبر، و جودة تبحر، و أنس ببواطن هذه العلوم و مآربها و كوامنها.

و أنا أجيب عن المسائل على ضيق زماني، و قلة فراغي، و كثرة قواطعي، و من اللّٰه جلت عظمته استمد التوفيق، مستمطرا اغمامه و مسند مرآته؟ فهو تعالى ولي ذلك و القادر عليه، المفزوع فيه اليه[3].

...فصل فيه ست مسائل تتعلق بالنيات في العبادات

مسألة:

إذا كان صحة العبادة تفتقر إلى نية التعيين و الى إيقاعها للوجه الذي شرعت له من وجوب أو ندب على جهة القربة بها الى اللّٰه تعالى و الإخلاص له في حال ابتدائها.

و اتفق العلماء بالشرع على وجوب المضي فيما له هذه الصفة من العبادات بعد الدخول فيها، و قبح إعادتها إذا وقعت مجزية، لكون ذلك ابتداء عبادة لا دليل عليها.

فما الوجه فيما اتفقت الطائفة الإمامية على الفتوى به من نقل نية من ابتدأ بصلاة حاضرة في أول وقتها إلى الفائتة حين الذكر لها و ان كان قد صلى بعض الحاضرة و فيه نقض ما حصل الاتفاق عليه من وجوب المضي في الصلاة بعد الدخول فيها بالنية لها و عقدها بتكبيرة الإحرام، و خلاف لوجوب تعيين جملة العبادة بالنية، و مقتضى لكون صلاة ركعتين من فريضة الظهر الحاضرة المعينة بالنية لها، مجزية عن صلاة الغداة الفائتة من غير تقدم نية لها، و هذا عظيم جدا.

مسألة:

و ما الوجه فيما اتفقوا عليه من جواز تكرير الصلاة الواحدة في آخر‌ الوقت رغبة في فضل الجماعة بعد فعلها في أوله، و فيه أمارة فعل الظهر مرتين، لان فعل الثانية لا بد أن يكون لوجه الوجوب أو الندب.

فان كان للوجوب فذلك باطل، لأنه بري‌ء الذمة من الظهر بفعل الاولى، و لا وجه لوجوب الثانية، و هو مقتض لكون الخمس صلوات عشرا، و هذا عظيم أيضا.

و ان كان للندب و هو مخالف لظاهر الفتيا الرواية عنهم عليهم السلام:

صل لنفسك و صل معهم، فان قبلت الاولى و الا قبلت الثانية و كيف ينوي بها الندب و هو امام لقوم يقتدون به، و صلاة المأموم معلقة بصلاة الامام، و هل عزمه على صلاة جماعتهم و فرضهم بأنها مندوبة إلا كفر به على إفسادها في نفسه.

مسألة:

و ما الوجه فيما اتفقوا عليه من الفتيا بصلاة من عليه صلاة واحدة فائتة غير متعينة عدة صلوات غير مميزات ثلاثا و أربعا و اثنتين. و أن الثلاث قضاء للمغرب ان كانت، و الأربع قضاء للظهر أو العصر أو عشاء الآخرة، و الركعتان للغداة.

أو ليس هذا يناقض الاتفاق على وجوب تعيين النية؟ و وجوب بقاء صلاة الظهر في ذمة من صلى أربعا، لم ينو بها ظهرا، بل ينوى بها مندوبة، أو مباحة غير معينة، أو معينة بالعصر، أو العشاء، أو القضاء، أو النذر، و لانه لا بد أن ينوي بالرباعية المفعولة على جهة القضاء الفائت صلاة معينة، أو الثلاث المتغايرات، أو لا ينوي بها شيئا.

فإن نوى صلاة معينة لم يجز عن غيرها. و ان نوى بها الثلاث المتغايرات، فتلك نية بلا فائدة، لأن صلاة واحدة لا تكون ثلاث، و لا قضاء الثلاث، و نية‌ واحدة في الشريعة لا يتبادر ثلاث عبادات متغايرات، من حيث كان أحد شروطها تعلقها بما هي نية له على جهة تعيين، و ان لم ينو بها شيئا لم يكن قضاء لشي‌ء، و ما الفرق بين الفائت المتعين و المبهم في وجوب تعيين النية لقضاء المتعين دون المبهم على تقدير هذه الفتيا الإبهام مختص بتعذر انحصار العدد دون تغايره.

و إذا كان لو فاته ظهر متعين، لوجب أن يقضي ظهرا باتفاق.

فكيف يجب إذا علم أن عليه صلوات منها ظهر و منها عصر و منها عشاء و مغرب و غداة، أن تصلى ظهرا و عصرا و مغربا و عشاء و غداة، و يكرر ذلك حتى يغلب في ظنه براءة ذمته، كما يفعل في قضاء ما يعين بالعدد. و هذا خلاف الفتيا المقررة.

مسألة:

و ما الوجه في الفتيا بمضي صلاة من فعلها قبل الوقت مع الجهل به أو السهو عنه، مع دخول الوقت و هو في شي‌ء منها. و الأمة متفقة على أن من فعل من الركعات قبل الزوال و الغروب و طلوع الفجر، فليس بظهر و لا مغرب و لا غداة.

و إذا ثبت هذا بغير تنازع، فكيف يكون ما فعل قبل تعلق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلق بها في المستقبل؟ و كيف يكون صلاته ظهرا يجزيه، و بعضها واجب لو سلم، و بعضها غير واجب؟ و كيف يكون ما لو قصد اليه لكان قبيحا يستحق به العقاب من فعلها قبل الوقت مجزيا عما لو قصد اليه، لكان واجبا يستحق به الثواب من فعلها بالوقت.

مسألة:

و ما الوجه في الفتيا باجزاء صوم يوم الشك مع تقدم العزم على صومه من شعبان على جهة الندب عن يوم من شهر رمضان إذا اتفق كونه منه، وهب نية التعيين‌

لا يفتقر إليها في أيام شهر رمضان، لكون يوم شهر رمضان لا يمكن أن يكون من غيره، كيف يكون ما وقع من الفعل بنية التطوع نائبا مناب ما يجب اتباعه لوجه الوجوب.

و هل هذا الا مخالف للأصول الشرعية من افتقار صحة العبادة إلى إيقاعها على الوجه الذي له شرعت، و أن إيقاعها لغيره مخرج لها من جهة التعبد و مخل باستحقاق الثواب، و على هذا التقدير من الحكم يجب أن يكون إيقاع العبادة لوجه التطوع لا ينوب مناب إيقاعها لوجه الوجوب على حال.

مسألة:

و ما الوجه في الفتيا بأن عزم المكلف على صوم جميع شهر رمضان قبل فجر أول يوم منه، يغني عن تكرار النية لكل يوم بعينه؟ مع علمنا بأن العبادة الواحدة تفتقر إلى نية التعيين في حال ابتدائها، دون ما تقدمها أو تراخى عنها و أن الصوم الشرعي العزم على أن يفعل مكلفة أمورا مخصوصة في زمان مخصوص، لوجوب ذلك على جهة القربة به، و الإخلاص كسائر العبادات المفتقرة صحتها الى الوجوه التي بها شرعت، و اتفاقنا على أن اختلال شرط من هذه يخرج المكلف عن كونه صائما في الشريعة.

فكيف يمنع مع هذا أن تكون النية المعقودة على هذا الوجه في أول يوم من الشهر ثابتة  عن نية كل يوم مستقبل منه، و هل ذلك الا مقتضى لصحة صوم من تقدمت منه هذه النية، مع كونه غير عازم في كل يوم مستقبل على أن يفعل ما يجب عليه اجتنابه في زمان الصوم و لا فعله للوجه الذي له شرع الصوم و لا‌ القربة. و هذا ما يجوز المصير اليه، و اتفاقنا على وجوب هذه الأمور في كل يوم، و الا لم يكن المرضي مما يمنع من الفتيا التي حكيناها مع حصول الإجماع عليها، أو يكون لها وجه ممن يذكره.

الجواب:

اعلم النيات غير مؤثرة في العبادات الشرعيات صفات يحصل عنها، كما نقوله في الإرادة أنها مؤثرة، و كون الخبر خبرا، أو كون المريد مريدا. و هو الصحيح على ما بيناه في كتبنا، لان قولنا «خبر» يقتضي تعلقا بين الخطاب و بين ما هو خبر عنه، و ذلك المتعلق لا بد من كونه مستندا الى صفة يقتضيه اقتضاء العلل.

و قد دللنا على ما أغفل المتكلمون إيراده في كتبهم و تحقيقه من الدلالة، على أن كون الخبر يقتضي تعلقا بالمخبر عنه، و أن المرجع بذلك لا يجوز أن يكون الى مجرد و كون المريد مريدا لكونه خبرا، بل لا بد من تعلق مخصوص في مسألة مفردة أمليناها تختص هذا الوجه.

و دللنا فيها على ذلك، بأن الخبر لو لم يكن متعلقا على الحقيقة بالمخبر عنه، و على صفة اقتضت هذا التعلق لم يكن في الاخبار صدق و لا كذب، لان كونه صدقا يفيد تعلقا مخصوصا يقتضي ذلك التعلق، فلو لم يكن هناك تعلق حقيقي لما انقسم الخبر الى الصدق و الكذب، و قد علمنا انقسامه إليها

و ليس في العبادات الشرعية كلها ما يحصل بالنية أحكام هذه العبادات، و يسقط بها عن الذمة ما كان غير ساقط، و يجري ما كان لولاها لا يجرى. و هذه‌

اشارة منا إلى أحكام مخصوصة لا الى صفات العبادات، فإنها تشير الى هذه الاحكام التي ذكرناها، لأنك لو استفسرته على مراده لما فسر الا بذكر هذه الاحكام.

و الذي يبين ما ذكرناه أن النية لو أثرت في العبادات صفة مقتضاها غيرها، لوجب أن يؤثر ذلك قبل العبادة بهذه الشرعيات، لأن المؤثر في نفسه لا يتغير تأثيره. و قد علمنا أن مصاحبة هذه النية للعبادة قبل الشرعيات لا حكم لها، فلا تأثير، فصح ما نبهنا عليه.

و إذا صحت هذه الجملة التي عقدناها، زال التعجب من نقل النية عن أداء الصلاة الى غير وقتها الى قضاء الفائتة، لأن ما صلاه بنية الأداء على صفة لا يجوز انقلابه عنها ..

و انما قيل له: إذا دخلت من صلاة  حضر وقتها، فانو أداءها و استمر على ذلك الى آخرها، ما لم تذكر أن عليك فائتة، فان ذكرت فائتة فانقل نيتك الى قضاء الفائتة، إذا كان في بقية من صلاته يمكنه الاستدراك، لأن الصلاة انما يثبت حكمها بالفراغ من جميعها، لان بعضها معقود ببعض، فهو إذا نقل نيته الى قضاء الفائتة صارت الصلاة كلها قضاء للفائتة لا أداء الحاضرة، لأن هذه أحكام شرعية يجب إثباتها بحسب أدلة الشرع.

و إذا كان ما رتبناه هو المشروع الذي أجمعت الفرقة المحقة عليه، وجب العمل و اطراح ما سواه[4]...

و قد بينا في صدر كلامنا أن دخول النية في العبادة و تعينها و إجمالها و مقارنتها و انفعالها، انما هو أحكام شرعية يجب الرجوع فيها إلى أدلة الشرع، فمهما دلت عليه اشتباه  و اعتمدنا.

و لو كانت نية الصوم الواجب يعتبر فيها تعيين النية على كل حال، لما أجمعت الإمامية على أجزاء صوم يوم الشك بنية التطوع، إذا ظهر أنه من شهر رمضان.

و كذلك أجمعوا على أنه ان صام شهرا بنية التطوع على أنه شعبان و كان مأسورا أو محبوسا يجب أن لا يعلم أحوال الشهر، لكان ذلك الصوم يجزيه عن شهر رمضان.

و انما تفتقر العبادة إلى نية إيقاعها على الوجه المعين في الموضع الذي يتمكن المكلف للعلم بالتعيين، و في يوم الشك لا يمكنه أن يعلم أنه من شهر رمضان في الحال، فلا يجوز أن يصومه إلا بنية التطوع، لان التعيين لا سبيل له إليه في هذا اليوم. و غير ممتنع أن يقوم الدليل على أنه ان صامه بهذه النية و ظهر أنه من شهر رمضان أجزأ عن فرضه.

و أبو حنيفة يوافقنا في هذه المسألة، يذهب إلى أنه ان صام يوما بنية التطوع و ظهر أنه من شهر رمضان أجزأه ذلك عن فرضه، و لم يجب عليه الإعادة.

و يعول في الاستدلال على صحة قوله على أشياء:

منها: قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ  فأمر بصوم شرعي، و لا خلاف في أن الصوم بنية التطوع صوم شرعي، فإنه لو صام في غير شهر‌ رمضان يوما بنية التطوع يوصف في الشرع بأنه صوم مطلق، فعموم الآية يقتضي فعل ما هو صوم في الشريعة.

و منها: أن صوم شهر رمضان مستحق العين على المقيم، فعلى أي وجه فعله وقع على المستحق، كطواف الزيارة و رد العارية و الوديعة و الغصب.

و منها: أن نية التعيين يحتاج إليها للتمييز بين الفرض و غيره، و التمييز انما يحتاج إليه في الوقت الذي يصح  في وقوع الشي‌ء و خلافه فيه. فأما إذا لم يصح منه في الحال الى  الفرض لم يحتج إلى نية التعيين، و لما لم تكن الوديعة و العارية بهذه الصفة لم يفتقر إلى نية التعيين.

فإذا قيل: لعل ما لا جزت صومه هذا الزمان المعين بغير نية أصلا، كما جاز رد الوديعة بغير نية، كما لقوله فروقا بين الأمرين، بأن يقول: كونه مستحق العين انما يكون علة في سقوط نية التعيين، لانه لو طاف بنية التطوع أجزأه عن فرضه، و لا يسقط فيه النية على الجملة.

و أجود مما ذكره أبو حنيفة أن يقول: ان الصوم في الشريعة لا بد من كونه قربة و عبادة بلا خلاف بين المسلمين، فإذا تعين في زمان بعينه سقط وجوب نية التعيين، و نية القربة و العبادة لا بد منها، و الا فلا يكون صوما شرعيا، و ليس كذلك رد الوديعة و العارية.

و أما المسألة الثانية:

حكم نية العبادة المشتملة على أفعال كثيرة فإن كل عبادة اشتملت على أفعال كثيرة، و ان كان لها اسم يتعرف به جملتها كالطهارة و الصلاة و الحج، فلا بد في كل مكلف لها من أن يكون له طريق إلى معرفة وجوب ما هو واجب منها بالتمييز بينه و بين ما هو ندب و نفل.

فإذا نوى في ابتداء الدخول في هذه العبادة التي لها أبعاض كثيرة أن يفعلها و نوع  إيقاع ما هو واجب، منها على جهة الوجوب و إيقاع الواجب منها واجبا و الندب ندبا، لم يحتج الى تجديد النية عند كل فعل من أفعالها، كالركوع و السجود و غيرهما، و هذه

الجملة مقنعة[5].

المسألة الثانية: جواز تجديد نية الصوم بعد مضى شطر النهار

ما الجواب فيما يفتي به الطائفة و غيرها من الفقهاء من جواز تجديد النية للصوم الواجب و المندوب بعد مضي شطر النهار، مع حصول العلم بأن ما مضى من الزمان عريا من النية ليس بصوم، و ما بقي لا يجوز إذا كان ما مضى ليس بصوم أن يكون صوما من حيث كان بعض زمان الصوم المشروع.

الجواب:

اعلم أن هذه المسألة يوافق الإمامية فيها الفقهاء، لأن أبا حنيفة يجيز صوم الفرض و التطوع بنية متجددة قبل الزوال. و الشافعي يجيز ذلك في التطوع و لا‌يجيزه في الفرض.

و الوجه في صحة ذلك ما قد ذكره في جواب هذه المسائل: من أن النية انما تؤثر في أحكام شرعية، و ليس تكون الصلاة بها على صلاة موجبة عنها، كما نقوله في العلل العقلية. و غير ممتنع أن تكون مقارنة نية القيام بجزء من أجزاء النهار في كون جميع النهار صوما، لأن تأثير العلل التي تجب مصاحبتها لما يؤثر فيه هاهنا مفقود.

و انما يثبت أحكام شرعية بمقارنة هذه النية، فغير ممتنع أن يجعل الشرع مقارنتها لبعض العبادة كمقارنتها لجميعها. ألا ترى أن تقدم النية في أول الليل أو قبل فجره مؤثرة بلا خلاف في صوم اليوم كله، و ان كانت غير مقارنة لشي‌ء من أجزائه، و هذا مما قد تقدم في جواب هذه المسائل.

و لا خلاف أيضا في أن من أدرك مع الامام بعض الركوع، يكون مدركا لتلك الركعة كلها و محتسبا له بها، و قد تقدم شطرها، فكيف أثر دخوله في بعض الركوع فيما تقدم، فصار كأنه أدركه كله لو لا صحة ما نبهنا عليه[6].

مسألة، قال رضي اللّٰه عنه:

كنت أمليت قديما مسألة أنظر منهما  أن من عزم في نهار شهر رمضان على أكل و شرب أو جماع يفسد بهذا العزم صومه، و نظرت ذلك بغاية الممكن و قويته، ثم رجعت عنه في كتاب الصوم من المصباح و أفتيت فيه بأن العازم على شي‌ء مما ذكرناه في نهار شهر رمضان بعد تقدم نيته و انعقاد صومه لا يفطر به، و هو الظاهر الذي تقتضيه الأصول، و هو مذهب جميع الفقهاء.

و الذي يدل عليه: أن الصوم بعد انعقاده بحصول النية في ابتدائه، و انما يفسد بما ينافي الصوم من أكل أو شرب أو جماع، و لا منافاة بين الصوم و بين عزيمة‌ الأكل و الشرب.

فإذا قيل: عزيمة الأكل و ان لم تناف الصوم فمتى تنافي نية الصوم التي لا بد للصوم منها و لا يكون صوما الا بها، لأن نية الصوم إذا كانت عند الفقهاء كلهم هي العزيمة على الكف عن هذه المفطرات و على ما حددتموه في المصباح هي العزيمة على توطين النفس على الكف إذا صادفت هذه العزيمة نية الصوم التي لا بد للصوم منها أفسدت الصوم.

قلنا: عزيمة الأكل لا شبهة في أنها تنافي عزيمة الكف عنها، لكنها لا تنافي حكم عزيمة الصوم و نيته و حكم النية نفسها، لأن النية إذا وقعت في ابتداء الصوم استمر حكمها في باقي اليوم و ان لم تكن مقارنة لجميع أجزائه و أثرت فيه بطوله.

و عندنا ان هذه النية- زيادة على تلك- مؤثرة في كون جميع أيام الشهر صوما و ان لم تكن مقارنة للجميع.

و قد قلنا كلنا ان استمرار حكم النية في جميع زمان الصوم ثابت و ان لم تكن مقارنة لجميع أجزائه، و لهذا جوزنا و جوز جميع الفقهاء أن يعزب عن النية و لا يجددها و يكون صائما مع النوم و الإغماء. و نحن نعلم أن منافاة عزيمة الأكل لعزيمة الكف و كذلك منافاة النوم و الإغماء لها.

أ لا ترى أنه لا يجوز أن تكون النية عارية عنه في ابتداء الصوم و يكون مع ذلك صائما، و كذلك لا يجوز أن يكون في ابتداء الدخول في الصوم نائما أو مغمى عليه، و لم يجب أن ينقطع استمرار حكم النية بتجدد عزوب النية و لا يتجدد نوم أو إغماء مع منافاة ذلك لنية الصوم لو تقدم و قاربها. كذلك لا يجب إذا تقدم منه‌الصوم بالنية الواقعة في ابتدائه ثم عزم في خلال النهار على أكل أو غيره من المفطرات لا يجب أن يكون مفسدا لصومه، لأن حكم الصوم مستمر.

و هذه العزيمة لا تضاد بينها و بين استمرار حكم الصوم و ان كانت لو وقعت في الابتداء لخرجت عن الانعقاد. و انما كان في هذا المذهب شبهة على الصائم تجديد النية في جميع أيام الصوم و أجزاء الصوم، و إذا كانت لا خلاف بين الفقهاء و أن تجديد هذه النية غير واجب لم يبق شهرة في أن العزيمة عن الأكل في خلال النهار مع انعقاد الصوم لا يؤثر في فساد الصوم، إذ لا منافاة بين هذه العزيمة و بين الصوم و استمرار حكمه، و انما يفسد الصوم بعد ثبوته و استمرار حكمه لما نافاه من أكل أو شرب أو جماع أو غير ذلك مما اختلف الناس فيه.

و على هذا الذي قررناه لا يكون من أحرم إحراما صحيحا بنية و حصلت في ابتداء إحرامه عزم في خلال إحرامه على ما ينافي الإحرام من جماع أو غيره مفسدا لإحرامه، بل حكم إحرامه مستمر لا يفسده الا فعل ما نافى الإحرام دون العزم على ذلك. و هذا لا خلاف فيه.

و كذلك من أحرم بالصلاة ثم عزم على شي‌ء أو التفات أو على شي‌ء من نواقض الصلاة لم يفسدها للعلة التي ذكرناها.

و كيف يكون العزم مفسدا كما يفسده الفعل المعزوم عليه الشرعي، و قد علمنا أنه ليس في الشريعة عزم له مثل حكم المعزوم عليه الشرعي البتة.

أ لا ترى [أن] من عزم على الصلاة لا يجوز أن يكون له حكم  مثل حكم فعل الصلاة الشرعي، و كذلك من عزم على الوضوء.

و انما اشترطنا الحكم الشرعي، لأن العزم في الثواب و استحقاق المدح حكم المعزوم عليه، و كذلك العزم على القبيح مستحق عليه الذم كما يستحق على الفعل القبيح، و ان وقع اختلاف في تساويه أو قصور العزم في ذلك عن المعزوم عليه.

و مما يدل على صحة ما اخترناه أنه لو كان عزيمة الأكل و ما أشبهه من المفطرات يفسد الصوم لوجب أن يذكرها أصحابنا في جملة ما عددوه من المفطرات المفسدات للصوم التي رووها عن أئمتهم عليهم السلام و أجمعوا عليها بتوقيفهم حتى ميزوا ما يفطر و يوجب الكفارة و بين ما يوجب القضاء من غير كفارة، و لم يذكر أحد منهم على اختلاف تصانيفهم و رواياتهم أن العزم على بعض هذه المفطرات يفسد الصوم، و لا أوجبوا فيه قضاء و لا كفارة، لو كان العزم على الجماع جاريا مجرى الجماع لوجب أن يذكروه في جملة المفطرات و يوجبوا فيه إذا كان متعمدا القضاء و الكفارة كما أوجبوا متناوله من ذلك.

فان قيل: فما قولكم في من نوى عند ابتداء طهارته بالماء ازالة الحدث ثم أراد أن يطهر رأسه أو رجليه غير هذه النية فنوى بما يفعل النظافة و ما يجري مجراها مما يخالف ازالة الحدث.

قلنا: إذا كانت نية الطهارة لا يجب إذا وقعت النية في ابتدائها أن تجدد حتى يقارن جميع أجزائها، بل كان وقوعها في الابتداء يقتضي كون الغسل و المسح طهارة، فالواجب أن نقول: متى غير النية لم يؤثر هذا التغيير في استمرار حكم النية الأولى. كما أنه لو عزم أن يحدث حدثا ينقض الوضوء و لم يفعله لا يجب أن يكون ناقضا لحكم الطهارة و لم يجر العزم على الحدث في الطهارة مجرى المعزوم نفسه.

و هذا الذي شبه مسألة الصوم و انا فرضنا من عزم على الفطر في خلال النهار و قلنا انه بهذا العزم لا يفسد صومه.

و أيضا فإنه يمكن أن يفصل بين الوضوء و بين الصوم: بأن الصوم لا يتبعض و لا يكون بعض النهار صوما و بعضه غير صوم و ما أفسد شيئا منه أفسد جميعه.

و كذلك القول في الإحرام بالحج و الدخول في الصلاة و الوضوء يمكن فيه التبعيض و أن يكون بعضه صحيحا و بعضه فاسدا.

فلو قلنا انه إذا نوى ازالة الحدث و غسل وجهه ثم بدا له فنوى النظافة بما يفعله من غسل يديه أو غسل بدنه تكون هذه النية للنظافة لا لإزالة الحدث و لا تعمل فيه النية الأولى لجاز، و لكنا نقول له أعد غسل يديك ناويا للطهارة و ازالة الحدث و لا نأمره بإعادة تطهير وجهه بل البناء عليه. و هذا لا يمكن مثله في الصوم و لا في الإحرام و لا في الصلاة[7].

الناصریات

«النية شرط في صحة الوضوء»

و عندنا: أن الطهارة تفتقر إلى نية، وضوء كانت، أو تيمما، أو غسلا من جنابة، أو حيض، و هو مذهب مالك، و الشافعي، و ربيعة ، و أبي ثور ، و إسحاق بن‌ راهويه ، و داود، و ابن حنبل

و قال الثوري، و أبو حنيفة، و أصحابه: إن الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النية

و قالوا جميعا إلا زفر: ان التيمم لا بد فيه من نية

و قال الحسن بن حي: يجزي الوضوء و التيمم جميعا بغير نية

دليلنا بعد الإجماع المقدم ذكره، قوله تعالى يٰا أَيُّهَا  الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ  الآية.

و تقدير الكلام: فاغسلوا للصلاة، و انما حذف ذكر الصلاة اختصارا.

و هكذا مذهب العرب، لأنهم إذا قالوا: إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك،

و إذا أردت لقاء العدو فخذ سلاحك، و تقدير الكلام: فالبس ثيابك للقاء الأمير، و خذ سلاحك للقاء العدو.

و الغسل لا يكون للصلاة إلا بالنية، لأن بالنية يتوجه الفعل إلى جهة دون غيرها.

و أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قوله: «الأعمال بالنيات، و إنما لامرئ ما نوى»و قد علمنا أن الأعمال قد توجد أجناسها من غير نية، فوضح أن المراد بالخبر أنها لا تكون قربة شرعية مجزئة إلا بالنيات.

و قوله عليه السلام: «إنما لا لامرئ ما نوى» يدل على أنه ليس له ما لم ينو.

هذا حكم اللغة العربية، ألا ترى أن القائل إذا قال: «إنما لك درهم» فقد نفى أن يكون له أكثر من درهم.

و الذي يدل على صحة ما ذكرناه في لفظه (إنما) أن ابن عباس  كان يذهب الى جواز بيع الدرهم بالدرهمين نقدا و يأبى نسية .

و خالفه في ذلك وجوه الصحابة، و احتجوا عليه بنهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الذهب بالذهب و الفضة بالفضة

فعارضهم بقوله عليه السلام: «إنما الربا في النسيئة»

فجعل هذا الخبر دليلا على أنه لا ربا إلا في النسيئة. و قول ابن عباس حجة فيما طريقه اللغة، و بعد فإن المخالفين له في هذه المسألة لم يمنعوه عن قوله من طريق اللغة، بل من جهة غيرها، فدل ذلك على ما ذكرناه.

و قد استقصينا هذه المسائل غاية الاستقصاء، و انتهينا فيها إلى أبعد الغايات في (مسائل الخلاف)[8].

المسألة الثانية و الثمانون [تكبيرة الافتتاح من الصلاة و كذا التسليم]

«تكبيرة الافتتاح من الصلاة و التسليم ليس منها ».

لم أجد لأصحابنا الى هذه الغاية نصا في هاتين المسألتين، و يقوى في نفسي أن‌

تكبيرة الافتتاح من الصلاة، و أن التسليم أيضا من جملة الصلاة، و هو ركن من أركانها، و هو مذهب الشافعي

و وجدت بعض أصحابنا يقول في كتاب له: إن السلام سنة: غير مفروض و من تركه متعمدا لا شي‌ء عليه

و قال أبو حنيفة: تكبيرة الافتتاح ليس من الصلاة، و التسليم ليس بواجب و لا هو من الصلاة، و إذا قعد قدر التشهد خرج من الصلاة بالسلام و الكلام و غيرهما .

دليلنا على صحة ما ذهبنا اليه من أن تكبيرة الافتتاح من الصلاة: أنه لا خلاف في أن نية الصلاة إما تتقدم عليه بلا فصل أو تقاربه، على الاختلاف بين الفقهاء في ذلك، و نية الصلاة لا تجب مقارنتها إلا لما  هو من الصلاة لتؤثر فيه، و ما ليس من الصلاة فلا يجب أن تتقدم عليه و لا تقارنه، و في وجوب مقارنة النية أو التقديم التكبيرة الافتتاح دليل على أنها من جملة الصلاة[9].

سلار دیلمی

ذكر: كيفية الطهارة الصغرى اعلم، ان كيفية الطهارة الصغرى يشتمل على واجب و ندب.

فالواجب منه: النية، و غسل الوجه: من قصاص الشعر إلى محادر شعر الذقن طولا، و ما دارت عليه الوسطى و الإبهام عرضا، و غسل اليدين[10]

ذكر: كيفية الصلاة

كيفية الصلاة تشتمل على واجب و ندب.

فالواجب: النية للقربة و التعيين، و أداؤها في وقتها[11]

ذكر: أحكام صوم شهر رمضان

أحكامه على ضربين: واجب و ندب. فالواجب معرفة ما يعرف به دخول شهر رمضان، و ما يعرف به تصرمه و هي: رؤية الأهلة، أو شهد بها في أوله واحد عدل، و في آخره اثنان عدلان. و إن تعذرت رؤية الأهلة، فالعدد. و النية، نية القربة. و نية واحدة كافية في صيام الشهر كله، و الكف عن كل ما يفسد الصيام[12]

مراسم الحج جملة:

و هي على ضربين: فعل، و كف.

فالفعل: النية، و الدعاء المرسوم عند الخروج من المنزل[13]

و هذه الأفعال على ضربين: واجب و ندب.

فالواجب: النية، و المسير، و الإحرام، و لبس ثيابه، و الطواف، و السعي، و التلبية، و سياق الهدى للقارن و المتمتع، و لتم الحجر، و استلام الركن اليماني، و الوقوف بالموقفين، و نزول المزدلفة، و الذبح، و الحلق، و الرجوع الى منى، و رمي الجمار[14].


[1] الانتصار في انفرادات الإمامية؛ ص: ۱۸۲-۱۸۴

[2] الانتصار فی انفرادات الامامیه، ص ۱۸۲

[3] رسائل الشريف المرتضى؛ ج‌2، ص: ۳۱۵

[4] رسائل الشريف المرتضى؛ ج‌2، ص: ۳۴۱-۳۴۶

[5] رسائل الشريف المرتضى؛ ج‌2، ص: ۳۵۶-۳۵۹

[6] رسائل الشريف المرتضى؛ ج‌2، ص: ۳۸۴-۳۸۵

[7] رسائل الشريف المرتضى؛ ج‌4، ص: ۳۲۲-۳۲۶

[8] المسائل الناصريات؛ ص: ۱۰۸-۱۱۰

[9] المسائل الناصريات؛ ص: ۲۰۸-۲۰۹

[10] المراسم العلوية و الأحكام النبوية؛ ص: ۳۷

[11] المراسم العلوية و الأحكام النبوية؛ ص: ۶۹

[12] المراسم العلوية و الأحكام النبوية؛ ص: ۹۶

[13] المراسم العلوية و الأحكام النبوية؛ ص: ۱۰۴

[14] المراسم العلوية و الأحكام النبوية؛ ص: ۱۰۵