[الهلال موضوعُ و الرؤیه طریق]
و المهمّ في هذا المجال، توضيح المراد من قولنا سابقًا إنّ الهلال هو الموضوع و إنّ الرؤية ليست إلّا طريقًا محضًا لثبوته، و ذلك لأنّ اصطلاح الموضوعية قد اشتبه الأمر فيها، و لا محيص عن بيان مقدّمة بها تتّضح العناصر الدخيلة في البحث ليقع کلّ منها محلّه الذي يليق به.
[الموضوع المنطقی؛ الموضوع الفقهی]
[عناصر الحکم الشرعی]
لكلّ حكمٍ شرعيٍّ عناصر ترتبط به، مثلًا في قولنا «أکرِم العالِم» فالحكم الوجوب، و الإکرام متعلّق الوجوب، و هو فعل المكلّف، و العالِم متعلّق المتعلّق، الذي يتعلّق به الإکرام، و الموضوع للحكم هي الأمور الملحوظة التي توجِب فعلية وجوب الإکرام، و هذا المعنی للموضوع هو اصطلاح فقهيٌّ رائج، و بهذا المعنی ربما يقال إنّ الموضوع هو المكلّف، أو إنّ الموضوع في «أکرِم العالِم» هو العالِم، أو يقال في قولنا: «أکرم العالم العادل» إنّ العدالة شرط للوجوب و جزء لموضوع الحكم.
و لكن کثيرًا ما يقال إنّ موضوع الوجوب هو الإکرام، و هذا المعنی ليس إلّا معنى منطقيا للموضوع الذي هو الجزء للقضية، فقضية «الإکرام واجب» موضوعه الإکرام و حكمه الوجوب، و لكن هذا ليس من الموضوع المصطلح في الفقه أصلًا، لأنّ الموضوع في الاصطلاح الفقهيّ هو الموجب و العلّة للحكم، لا موصوفه أو معلوله، يعني أنّ الإکرام يتّصف بالوجوب، و يتحقّق بعد فعلية الوجوب و امتثال المكلّف، فهو متفرّعٌ من الوجوب، لا أنّه يوجب و يسبّب فعلية الوجوب حتّی يكون موضوعًا بالمعنی المصطلح، بل هو موضوع بمعنی موضوع القضية في قولنا: «الإکرام واجب».
إذا تبين هذا فنقول إنّ الرؤية في قولنا «لا تنظر إلی الأجنبية» هو متعلّق الحكم، و علی ما ذکرنا آنفًا إذا قيل هنا إنّ لها موضوعية فهو ليس بالمصطلح الفقهيّ، بل بالمصطلح المنطقيّ، فمن يقول بأنّ «رؤية الأجنبية لها موضوعية و لها إطلاق يشمل الرؤية بالتلسكوب و أنّ رؤية الهلال لها طريقية و لا يشمل الرؤية بالتلسكوب»، فما يقول لو فرضنا ورد «لا تنظر إلی هلال صفر» فهل يجوز النظر إلی هلال صفر بالتلسكوب؟ بدعوی أنّ رؤية الهلال لها طريقية إلی کشف حصول درجة فاصلة للقمر من الشمس، و لم تحصل بعد.
و لكن العرف و ارتكاز المتشرّعة لا تساعدان هنا علی تجويز النظر إلی هلال صفر و لو کان بالتلسكوب، لماذا؟ ذلك لما قلنا سابقًا إنّ الهلال في کلّ شهر متشخّصٌ واحد، و صدق الهلال عرفًا دائرٌ مدار تحقّق نفسه، لا تحقّق فاصلة خاصّة بين القمر و الشمس، فلذا قلنا يدعو الناظر بالتلسكوب صديقه فيقول تعالَ انظر إلی الهلال، بلا شائبة المجازية، و إذا کان هلال صفر و فرضنا أنّ النظر إلی هلال صفر حرام، فلا يرتاب أحدٌ في حرمة النظر إلی الهلال إذا صدق عند العرف أنّه هلال صفر، و هذا واضحٌ بحمد الله تعالي.
و يتّضح به ما أشرنا إليه سابقًا من أنّ «التفرقة بين ثبوت حكم الرؤية لشخص المكلّف و بين ثبوته لعموم الناس»، ليس بفارق، إلّا أن يرجع إلی الفرق بين کون الرؤية متعلّقة للتكليف و بين کونها طريقًا إلی ثبوت موضوع التكليف، فإذا قلنا بحرمة النظر إلی الأجنبية بالتلسكوب لأنّه شخصيّ و لم نقل بثبوت الشهر بالتلسكوب لأنّه نوعيّ، فما نقول إذا فرضنا ورد خطابٌ للناس: «إذا نظر بعضكم إلی الأجنبية فاستغفروا جميعًا»، فهل ثبوت حكم الرؤية هنا شخصيّ أم نوعيّ؟
و کذلك إذا قلنا «بحرمة النظر إلی الأجنبية بالتلسكوب لموضوعيّة الرؤية و لم نقل بثبوت الشهر بالتلسكوب لطريقية الرؤية»، فما نقول إذا فرضنا ورد: «لا تنظروا إلی هلال صفر» أو «إذا نظر بعضكم إلی هلال صفر فاستغفروا جميعًا»، فهل الرؤية هنا أُخذت علی نحو الموضوعية أم الطريقية؟ و هل تشمل الرؤية بالتلسكوب أم لا؟ و نری في المثال الثاني أنّ الرؤية ليست متعلّقة للحكم، بل انقلبت إلی کونها جزءًا لموضوع الحكم، و مع ذلك لا يفرق بين کونها بالعين المجرّدة أم بالمسلّحة.
و توصيف الرؤية في بحث الهلال بالطريقية و إن کان حسنًا و ابتعادًا عن جعل الموضوعية للرؤية المتعارفة، لكن المهمّ هو تشخيص ما جعلت الرؤية طريقًا إليه، الذي هو الموضوع حقيقة، فهل هو الفاصلة الخاصّة بين الشمس و القمر، أم هو الهلال عند العرف؟ و لا يتفرّع علی طريقية الرؤية عدم إجزاء الرؤية بالتلسكوب إذا کان الموضوع هو الهلال العرفيّ علی ما أوضحناه.
فتحصَّل أنّ الهلال هو الموضوع الذي تدور عليه الأحكام الشرعية، و بتعبيرٍ أدقّ هو جزء الموضوع بالمعنی المصطلح عند الفقهاء، کما أنّ الزوال جزء الموضوع لوجوب صلاة الظهر، و کما أنّ زيادة الظلّ بعد نقصانه طريقٌ إلی العلم بحصول الزوال و لا يمنع من التمسُّك برسم الدائرة الهندية التي هي أيضًا طريق إلی العلم بحصول الزوال لكن بنحوٍ أدقّ. فكذلك الهلال جزء لموضوع أحكام الصوم، و للعلم بتحقّق الهلال طرقٌ بعضها أدقّ من بعض، و لا يمنع الطريق غير الأدقّ من الطريق الأدقّ، مثلًا طريقية مضيّ ثلاثين يومًا لا تمنع من طريقية الرؤية في التاسع و العشرين، و طريقية الرؤية بالعين المجرّدة لا تمنع من طريقية الرؤية بالعين المسلّحة، لأنّ الموضوع هو الهلال عند العرف، و لا يهتمّ العرف بالطريق إذا علم حصول الهلال به، کما إذا علم دقيقًا بالزوال بالدائرة الهنديّة، فلا يتحرّی طريقًا غيرها هو غير دقيق بالنسبة إليها، لأنّ الفرض أنّ الزوال هو الموضوع، و الطرق تكشف عنه.
بدون نظر