ب) تعدد قرائات؛ از زمان رسول خدا
قال صاحب الكتاب: (فاما جمعه الناس على قراءة واحدة، فقد بيّنا ان ذلك من عظيم ما خصّ بها القرآن، لأنه مع هذا الصّنيع قد وقع فيه من الاختلاف، ما وقع، فكيف لو لم يفعل ذلك، و لو لم يكن فيه الّا اطباق الجميع على ما أتاه من أيّام الصّحابة الى وقتنا هذا، لكان كافيا).
…
يقال له: أمّا ما اعتذرت به من جمع الناس على قراءة واحدة فقد مضى الكلام عليه مستقصى و بيّنا ان ذلك ليس تحصينا للقرآن و لو كان تحصينا لما كان رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم يبيح القراءات المختلفة.
و قوله: (لو لم يكن فيه الا اطباق الجميع على ما اتاه من ايام الصّحابة الى وقتنا هذا) ليس بشيء، لانّا نجد الاختلاف في القراءة و الرجوع فيها الى الحروف مستمرا في جميع الاوقات التي ذكرها الى وقتنا هذا و ليس نجد المسلمين يوجبون على أحد التمسّك بحرف واحد، فكيف يدّعي اجماع الجميع على ما اتاه عثمان؟.
فان قال: لم أعن بجمعه الناس على قراءة واحدة الا انه جمعهم على مصحف زيد، لأن ما عداه من المصاحف كان يتضمّن من الزيادة و النقصان ممّا عداه ما هو منكر.
قيل له: هذا بخلاف ما تضمنه ظاهر كلامك أولا، و لا تخلو تلك المصاحف التي تعدو مصحف زيد من ان تتضمن من الخلاف في الالفاظ و الكلم، ما اقرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه، و أباح قراءته، فان كان كذلك، فالكلام في الزيادة و النقصان يجري مجرى الكلام في الحروف المختلفة، و ان الخلاف اذا كان مباحا و مرويّا عن الرسول و منقولا فليس لأحد أن يحظره، و ان كانت هذه الزيادة و النقصان بخلاف ما انزل اللّه تعالى، و ما لم يبح الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم تلاوته فهو سوء ثناء على القوم الذين يقرءون بهذه المصاحف كابن مسعود و غيره، و قد علمنا انه لم يكن منهم الا من كان علما في القراءة و الثقة و الاماتة و النزاهة، عن ان يقرأ بخلاف ما أنزل اللّه، و قد كان يجب أن يتقدم هذا الانكار منه و من غيره ممن ولي الأمر قبله، لأنّ انكار الزيادة في القرآن و النقصان لا يجوز تأخيره[1].
فان قال: ابن مسعود كره جمعه الناس على قراءة زيد و احراقه المصاحف و إنما جمع على قراءة واحدة لأن فيه تحصينا للقرآن و قطع المنازعة و الاختلاف فيه.
قيل: هذا ليس بصحيح، و لا شك في أن ابن مسعود كره إحراق المصاحف كما كرهه جماعة من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تكلموا فيه. و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا و ما كره عبد اللّه من تحريم قراءته و قصر الناس على قراءة زيد إلا مكروها. و هو الذي يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله فيه: «من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» و روى ابن عباس رحمة اللّه عليه أنه قال: «قراءة ابن أم عبد هي القراءة الاخيرة، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعرض عليه القرآن في كل سنة في شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه صلّى اللّه عليه و آله عرض عليه مرتين، فشهد عبد اللّه بن مسعود ما نسخ منه، و ما بدل فهى القراءة الأخيرة»
و روى شريك عن الأعمش: قال قال ابن مسعود: لقد أخذت من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعين سورة- و ان زيد بن ثابت لغلام يهودي في الكتاب، له ذؤابة-
و قولهم: إنه خاف من اختلاف الناس في القراءة (ليس) ذلك بموجب لما صنعه عثمان، لأنهم يروون: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» فهذا الاختلاف فى القراءة عندهم مباح مسند عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فكيف يحظر عليهم من التوسع في الحروف ما هو مباح؟
فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن- كما ادعوه- لما أباح النبي صلّى اللّه عليه و آله في الأصل إلا القراءة الواحدة، لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته من حيث كان مؤيدا بالوحي، موفقا في كل ما يأتي و يذر.
و ليس لهم أن يقولوا: أحدث من الاختلاف ما لم يكن في أيام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و لا من جملة ما أباحه، (و ذلك): ان الأمر لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة و الأمر المبتدع، و لا يحمله ما أحدث من القراءة على تحريم المتقدم المباح بلا شبهة[2].
[1] الشافى فى الإمامة، ج۴، ص: ۳۰۰-٣٠٣
[2] تلخيص الشافي، ج۴4، ص: ۱۰۶-١٠٩
بدون نظر