ترجیح القراءه
و نجد الشريف المرتضى في بعض المواضع يرجح قراءة على أخرى، و يبدو أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه لترجيح قراءة على أخرى، و إن لم يلتزم ذلك. ففي قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى[الضحی/ ٧]، ذكر في معنى الآية وجوها منها: «أنّه أراد وجدك ضالّا عن النبوّة فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام الّتي نزلت عليه و أمر بتبليغها إلى الخلق». ثمّ ذكر قراءة من قرأ بالرفع «و وجدك ضالّ فهدى»، على أن اليتيم وجده و كذلك الضال لكنّه ردّ هذا الوجه بقوله: «و هذا الوجه ضعيف، لأنّ القراءة غير معروفة، و لأنّ هذا الكلام يسمج و يفسد أكثر معانيه»
و قد جاء في تفسير القرطبي: «و في قراءة الحسن «و وجدك ضالّ فهدى»، أي وجدك الضالّ فاهتدى بك؛ و هذه قراءة على التفسير»
و وقف المرتضى عند قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائده/ ۶٠]
و يتساءل: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالّة على أنه تعالى جعل الكافر كافرا؛ لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت؛ كما جعل القردة و الخنازير؟
لكنّه يرفض هذا القول و يصرح بأنه ليس في ظاهر الآية ما ظنّوه، و أكثر ما
تضمّنته الأخبار بأنه خلق و جعل من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة و الخنازير؛ و لا شبهة في أنه تعالى هو خلق الكافر، غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره و جعله كافرا . ثمّ يذكر قولا يرجحه و يقويه و هو: «يجوز أن يعطف «عبد الطاغوت» على الهاء و الميم في «منهم»، فكأنّه جعل منهم، و ممّن عبد الطاغوت القردة و الخنازير؛ و قد يحذف «من» في الكلام؛ قال الشاعر:
أ من يهجو رسول اللّه منكم و يمدحه، و ينصره سواء
أراد: و من يمدحه و ينصره»
و على طريقته في المحاجّة و المجادلة يقول: «فإن قيل: فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح، أين أنتم عن قراءة من قرأ «و عبد» بفتح العين و ضمّ الياء، و كسر التاء من «الطاغوت»، و من قرأ «عبد الطاغوت» بضمّ العين و الباء
و يرد الشريف المرتضى هذا القول بحجّة أن المختار من هذه القراءة «عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح، و عليها جميع القرّاء السبعة إلّا حمزة فإنّه قرأ: «عبد» بفتح العين و ضمّ الباء، و باقي القراءات شاذّة غير مأخوذ بها».
و هذا يعني أن شهرة القراءة من الأسباب الّتي تدعوه إلى ترجيح قراءة على أخرى، و لكنّه لم يلتزم بهذا النهج، و لم تكن القراءات المشهورة كلّها عنده
بمستوى واحد، إذ نجده- أحيانا- يضعف القراءات المشهورة لأن ظاهرها يخالف قواعد اللغة، فهو حين وقف عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة/ ۶] ذكر أنّ القراءة بالجرّ أولى من القراءة بالنصب «لأنّا إذا نصبنا الأرجل فلا بدّ من عامل في هذا النصب، فامّا أن تكون معطوفة على الأيدي، أو يقدر لها عامل محذوف، أو تكون معطوفة على موضع الجار و المجرور في قوله تعالى: وَ امْسَحُوا . و يرفض المرتضى أن تكون الأرجل معطوفة على الأيدي «لبعدها عن عامل النصب في الأيدي، و لأن إعمال الأقرب أولى من أعمال الأبعد»
ثمّ يرفض أن تنصب بمحذوف مقدر لأنّه «لا فرق بين أن تقدر محذوفا هو الغسل، و بين أن تقدر محذوفا هو المسح، و لأن الحذف لا يصار إليه إلّا عند الضرورة»
فأمّا حمل النصب على موضع الجار و المجرور، «فهو جائز و شائع إلّا أنّه موجب للمسح دون الغسل، لأنّ الرءوس ممسوحة، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها». لكن المرتضى يعود و يرجّح أن تكون الأرجل معطوفة على لفظة «الرءوس»، لأنّ «إعمال أقرب العاملين أولى و أكثر في لغة القرآن و الشعر». و هذا- كما يقول- «أولى من نصبها و عطفها على موضع الجار و المجرور، لأنه أبعد قليلا، فلهذا ترجحت القراءة بجر الأرجل على القراءة بنصبها»
و قد قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي «و أرجلكم» بنصب اللام عطفا على «أيديكم» و قرأ الباقون «و أرجلكم» بالخفض عطفا، على «رءوسكم» و قد استحسن الطبري قراءة الخفض مؤثرا لها قائلا: «و أعجب القراءتين إلى أن أقرأها قراءة من قرأ خفضا» و قد أوّل جرّ لفظه «و أرجلكم» على أنها معطوفة على «رءوسكم»، لأن العطف على الرءوس مع قربه منه «أي من الأرجل» أولى من العطف على الأيدي، و قد فصّل بينه و بينها بقوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ. و إلى هذا المعنى ذهب ابن هشام الأنصاري، فقد ذكر أن العطف لو كان على الوجوه و الأيدي للزم ذلك أن يفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية و هي: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و إذا حمل العطف، أعني عطف الأرجل- على الرءوس لم يلزم الفصل بالأجنبي، و الأصل أن لا يفصل بين المتعاطفين بمفرد فضلا عن جملة
و ذكر المرتضى الرأي القائل: إنّ الأرجل إنّما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في الحكم على الرءوس، ورد هذا القول لأسباب منها: ان الإعراب بالمجاورة شاذّ نادر ... و لا يجوز حمل كتاب اللّه عزّ و جلّ على الشذوذ الّذي ليس بمعهود و لا مألوف. و منها: انّ الإعراب بالمجاورة عند من أجازه إنّما يكون مع فقد حرف العطف ... و منها انّ الإعراب بالمجاورة إنّما استعمل في الموضع الّذي ترتفع فيه الشبهة و يزول اللبس ...» و قد سبق أن اشار الزجاج إلى هذا التأويل، فقد أنكر أن تكون هذه اللفظة مجرورة على الجوار، و أبى أن يحمل عليه كتاب اللّه تعالى ذكره، متأوّلا جرّ لفظة «و أرجلكم» عطفا على «رءوسكم». و أنكر النحاس الجرّ على الجوار، و عده غلطا عظيما في الكلام و أنكره ابن خالويه، و حمله على الضرورة في الأمثال و الشعر
و هناك من ارتضى الجرّ على الجوار، و من هؤلاء أبو عبيدة «8»، و أبو البقاء، إذ ذكر أن الجوار مشهور و أنه غير ممتنع أن يقع في القرآن الكريم و مال إلى هذا الرأي الدكتور عبد الفتّاح الحموز
بدون نظر