رفتن به محتوای اصلی

رد تلاوت به معنی

ابن جنی

من ذلك حدثنا عباس الدوري عن أبي يحيى الحماني عن الأعمش عن أنس أنه قرأ: "وأقوم قيلا"، و"وأصوب". فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: "وأقوم قيلا"، فقال أنس: إن أقوم أصوب وأهيأ واحد.قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كانوا يعتبرون المعاني، ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها.ومن ذلك ما رؤينا عن أبي زيد أن أبا سرار الغنوي كان يقرأ: "فحاسوا خلال الديار"، والحاء غير معجمة. فقيل له: إنما هو "جاسوا"، فقال: حاسوا، وجاسوا واحدومن ذلك حكاية ذي الرمة في قوله:وظاهر لها من يابس الشخت فقيل له" أنشدتنا بائس السخت فقال: بائس، ويابس واحد[1].

{لولوا إليه وهم يجمحون} (٥٧) ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: سمعت أنسا يقرأ: «لولوا إليه وهم يجمزون»، قيل له: وما يجمزون؟ إنما هى يجمحون. فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.

قال أبو الفتح: ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرءون الحرف مكان نظيره من غير أن تتقدم القراءة بذلك، لكنه لموافقته صاحبه فى المعنى. وهذا موضع يجد الطاعن به إذا كان هكذا على القراءة مطعنا، فيقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبى صلى الله عليه وسلم، ولو كانت عنه لما ساغ إبدال لفظ مكان لفظ إذ لم يثبت التخيير فى ذلك عنه، ولما أنكر أيضا عليه: «يجمزون»، إلا أن حسن الظن بأنس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة التى هى «يجمحون» و «يجمزون» و «يشتدون»، فيقول: اقرأ بأيها شئت، فجميعها قراءة مسموعة عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه السلام: «نزل القرآن بسبعة أحرف كلها شاف كاف».فإن قيل: لو كانت هذه الأحرف مقروءا بجميعها لكان النقل بذلك قد وصل إلينا، قيل: أو لا يكفيك أنس موصلا لها إلينا؟ فإن قيل: إن أنسا لم يحكها قراءة وإنما جمع بينها فى المعنى، واعتل فى جواز القراءة بذلك لا بأنه رواها قراءة متقدمة، قيل: قد سبق من ذكر حسن الظن ما هو جواب عن هذا[2]

باقلانی

وأما ما يدل على فساد قول من زعم أن معنى الأحرف السبعة أنها أسماء مترادفة على شيء واحد، إن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون القرآن منزلا على أكثر من سبعة أحرف وعلى أقل منها أيضا، لأن من الأشياء التي ذكرها الله تعالى أكثر من سبعة أسماء في اللغة، ومنه ما له أقل من سبعة أسماء، ومنه ما لا اسم له إلا واحدا، فبطل ما قالوه.

فإن قيل: أراد بذلك أن الأسماء التي ذكرها الله تعالى وأودع اسمها كتابه ما ذكره لسبعة أسماء من أسمائه فقط وإن كان له أكثر من تلك الأسماء، قيل لهم: هذا فاسد لأننا لا نعرف في شيء مما ذكره الله تعالى ، مما له سبعة أسماء ذكره الله تعالى بها في موضع واحد أو في مواضع متفرقة، وإن كان ذلك كذلك سقط ما قالوه.

ويدل على فساد هذا التأويل أيضا أن قارئا لو قرأ مكان (وجاء ربك) ، ووافى ربك، وقرأ: "إني ماض إلى ربي" مكان، (إني ذاهب إلى ربي) ولو قرأ: "جيئوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" أو: "وافوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" مكان قول الله تعالى: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) لم يسغ ذلك ولم يحل بإجماع المسلمين، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه من كل وجه، ولسنا ننكر مع ما أفسدنا به قولهم أن يكون من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن هذا الوجه بأن يكون الله تعالى ذكر شيئا أو أشياء من كتابه باسمين مختلفين ولفظين متغايرين أو أسماء متغايرة مختلفة الصور، ويكون هذا الباب حرفا مما أنزله وطريقة وقراءة معروفة، ولكنها تكون مع ذلك بعض السبعة الأحرف، ولا يكون معنى جميع السبعة الأحرف هذا الوجه.

وقد روي أن عبد الله قرأ "كالصوف المنفوش" مكان (العهن المنفوش) .

وقرأ: "إن كانت إلا زعقة واحدة" مكان: (صيحة واحدة) .

وقرأ بعضهم: "إن شجرة الزقوم طعام الفاجر" مكان: (طعام الأثيم) .

فيكون هذا الاختلاف في الأسماء التي معناها واحد وجها مما أنزله الله تعالى وسماه الرسول حرفا، وجعله بعض السبعة الأوجه التي أنزل الكتاب بها، وإنما ننكر أن يكون هذا الضرب فقط هو معنى جميع الوجوه

والأحرف التي أنزلت على ما قاله أصحاب هذا التأويل، فهذا هو الفصل بيننا وبينهم في تنزيل هذا الوجه ومرتبته، فدل ما ذكرناه على أن المراد بذكر الأحرف السبعة المطلقة للاختلاف إنما هو أوجه[3].

ابن تیمیه

وأما من قال عن ابن مسعود: أنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال فاقرؤوا كما علمتم أو كما قال.[4]

ابن ابی العز

وأما من قال عن ابن مسعود: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى! فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: هلم، وأقبل، وتعال، فاقرءوا كما علمتم. أو كما قال[5].

ابن جزری

وأما من يقول: إن بعض الصحابة كابن مسعود كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، إنما قال: نظرت القراءات فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم. نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا فهم آمنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتبه معه، لكن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يكره ذلك ويمنع منه فروى مسروق عنه أنه كان يكره التفسير في القرآن وروى غيره عنه: " جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه "[6].

القاسمی

قال ابن الجزري في النشر: أما من يقول بأن بعض الصحابة، كابن مسعود، كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه. إنما قال: نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم. نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس. وربما كان بعضهم يكتبه معه. لكن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك ويمنع منه. رواه عنه مسروق. وروي عنه: جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه[7].

معاصرین

الشبهة الثالثة: جواز القراءة بالمعنی

ردد هذه الشبهة عدد من المستشرقين وأتباعهم زاعمين جواز إبدال لفظ مكان آخر إذا كان يؤدي المعنى نفسه، معتمدين على بعض روايات الأحرف السبعة وآثار عن عدد من القراء يمكن أن يدل ظاهرها على ما ذهبوا إليه : لو كانت القراءة بالمعنى حاصلة فعلا لكان بين أيدينا الآن آلاف المصاحف المختلفة نتيجة لذلك.وإن القول بجواز تبديل لفظ بآخر يؤدي إلى ذهاب الإعجاز الذي هو من أهم مميزات القرآن الكريم، وإن كل لفظ فيه مقدر في موضعه خير تقدير، ومعبر أصح تعبير، ولا يمكن أن يسد أي لفظ آخر مسده.وأما ما اعتمد عليه مثير و هذه الشبهة من روايات وآثار، مثل حديث: «ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة»  وما يروى عن ابن مسعود أنه كان يقرئ رجلا: إن شجرة الزقوم (٤٣) طعام الأثيم [الدخان: ٤٣ - ٤٤] وكان الرجل يقول: طعام اليتيم فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر. قال:نعم. قال: فقل فإنها لا تصلح حجة لهم، فالحديث يراد به تبيين أن الحروف التي نزل بها القرآن متفق مفهومها، لا يكون في شيء منها المعنى وضده، ولا يختلف الوجه منها عن معنى وجه آخر بما يضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده.أما الأثر المروي عن ابن مسعود فإنه ضعيف السند لا يصح الاحتجاج به،  وعلى فرض صحته فإنه يحمل على أنه أراد توضيح المعنى له ليكون ذلك وسيلة إلى النطق بالصواب، قال القرطبي: «ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لأن ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم وتوطئة منه للرجوع إلى الصواب واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم [8]

ومن طعون الرافضة، استدل إخوانهم من المستشرقين، وتكلموا كثيرا فى موضوع القراءات بالأحرف السبعة محاولين إثبات أن هذه القراءات ليست من الوحى أساسا، وإنما نجمت عن "القراءة بالمعنى"، فلم يكن نص القرآن بحروفه بالنسبة لبعض المؤمنين هو المهم، ولكن المهم هو روح النص، ودليلهم ما جاء فى بعض الروايات وفيها "كلها شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، وعجل"

ولعل أول من ذهب إلى ذلك من المستشرقين جولدتسيهر، فى كتابه "مذاهب التفسير الإسلامى" حيث ذهب إلى أن اختلاف القراءات القرآنية راجع إلى خلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل إذ يقول وهو يتحدث عن اختلاف القراءات القرآنية: "وإذا فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات فى المحصول الموحد الغالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول فى نشأة حركة اختلاف القراءات، فى نص لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحر الدقة فى نقطه أو تحريكه"

وردد هذا الرأى المستشرق الاسترالى الأصل "آرثرجفرى" وذكره فى مقدمة تحقيقه لكتاب "المصاحف" لابن أبى داود قال: "وكانت هذه المصاحف التى بعثها عثمان إلى الأمصار؛ كلها خالية من النقط والشكل، فكان على القارئ نفسه أن ينقط، ويشكل هذا النص على مقتضى معانى الآيات" .. ونتيجة ذلك كله هى القول بحدوث تغيير فى النص القرآنى . وقد تابع هذين المستشرقين بعض العلماء العرب، من الجامعيين وغيرهم، وأذاعوه فى كتبهم.يقول الدكتور طه حسين "إن القرآن تلى بلغة واحدة، ولهجة واحدة هى لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناولها القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينا كثيرا ... إلى أن يقول: "والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحى فى قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرا ولا فاسقا ولا مغتمزا فى دينه، وإنما هى قراءات مصدرها اللهجات واختلافها، للناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا بعضها ويقبلوا بعضها[9]


[1] كتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ط المجلس الأعلى، ج ٢، ص ٣٣۶

[2] كتاب المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ط العلمية، ج ١، ص ۴١۴-۴١۵

[3] كتاب الانتصار للقرآن للباقلاني، ج ١، ص ٣٨٢-٣٨٣ 

[4] كتاب مجموع الفتاوى، ج ١٣، ص ٣٩٧ 

[5] كتاب شرح الطحاوية ت الأرناؤوط، ج ٢، ص ۴٣٠ 

[6] كتاب النشر في القراءات العشر، ج ١، ص ٣٢ 

[7]  كتاب تفسير القاسمي محاسن التأويل، ج ١، ص ١٨٢ 

[8] كتاب مقدمات في علم القراءات، ص ٢٢۶-٢٢٧

[9] كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها، ص ٨٩٧