المیزان
و التأويل من الأول و هو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، و تأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.
و قد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق»: الأعراف- 53، أي بالحق فيما أخبروا به و أنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، و أن ما يدعون من دونه هو الباطل، و أن النبوة حق، و أن الدين حق، و أن الله يبعث من في القبور، و بالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة و أخبارها.
و من هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات (اسم مفعول) أخبار الأنبياء و الرسل و الكتب.
و يرده: أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات و بعض الأفعال و عن ما سيقع يوم القيامة، و أما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، و كذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، و كذا ما دل على قصص الأنبياء و الأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.
و مثلها قوله تعالى: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى إلى أن قال: أم يقولون افتراه إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين»: يونس- 39، و الآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.
و لذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام، و هو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، إما سابقا كقصص الأنبياء و الأمم الماضية، و إما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله و أسمائه و مواعيده و كل ما سيظهر يوم القيامة، و في مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا»: إسراء- 35، فإن تأويل إيفاء الكيل و إقامة الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع و هو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.
و فيه أولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي و أثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل و إقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله. و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع و مآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجية (كما في الإخبار) أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية (كما في الإنشاء) لها تأويل، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.
و ثانيا: أن التأويل و إن كان هو المرجع الذي يرجع و يئول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه و ليس بتأويل له، و العدد يرجع إلى الواحد و ليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا. يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى و الخضر (ع): «سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا»: الكهف- 78، و قوله تعالى: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا»: الكهف- 82، و الذي نبأه لموسى صور و عناوين لما فعله (ع) في موارد ثلاث كان موسى (ع) قد غفل عن تلك الصور و العناوين، و تلقى بدلها صورا و عناوين أخرى أوجبت اعتراضه بها عليه، فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى: «حتى إذا ركبا في السفينة خرقها»: الكهف- 71، و قوله تعالى: «حتى إذا لقيا غلاما فقتله»: الكهف- 74، و قوله تعالى: «حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه»: الكهف- 77.
و الذي تلقاه موسى (ع) من صور هذه القضايا و عناوينها قوله: «أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا»: الكهف- 71، و قوله: «أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا»: الكهف- 74، و قوله: «لو شئت لاتخذت عليه أجرا»: الكهف- 77.
و الذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما، و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك»: الكهف- 82، ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (ع) جملة بقوله: «و ما فعلته عن أمري»: الكهف- 82، فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته و عنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب و رجوع الفصد إلى العلاج، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.
و يقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصة يوسف (ع) كقوله تعالى: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: يوسف- 4، و قوله تعالى: و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل قد جعلها ربي حقا»: يوسف- 100، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه و إخوته له و إن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل، و كذا قوله تعالى: «و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون، قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون»: يوسف- 48.
و كذا قوله تعالى: «و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا، و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين إلى أن قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»: يوسف- 41.
و كذا قوله تعالى: «و يعلمك من تأويل الأحاديث»: يوسف- 61، و قوله تعالى: «و لنعلمه من تأويل الأحاديث»: يوسف- 21، و قوله تعالى: و علمتني من تأويل الأحاديث»: يوسف- 101، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف (ع) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث، و هو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة و المثال، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها، و الحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى و الخضر (ع)، و كذا في قوله تعالى: و أوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله و أحسن تأويلا الآية: إسراء- 35.
و التدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله الآية، و قوله تعالى «هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله» الآية» فإن أمثال قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق- 22، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب و أنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها و النظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه، و سيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب و النبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.
فقد تبين بما مر: أولا: أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.
و ثانيا: أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.
و ثالثا: أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور الخارجية العينية، و اتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، و أما إطلاق التأويل و إرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى: و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.[1]
3 ما معنى التأويل؟
فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير و هو المراد من الكلام و إذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية هو المعنى المراد بالآية، المتشابهة، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابه على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره و غير الراسخين في العلم.
و قالت طائفة أخرى: إن المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، و قد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.
و كيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول: إن التأويل لا يعلمه إلا الله، و من كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل
عن ابن عباس أنه كان يقول": أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله.
و ذهب طائفة أخرى: إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا الله و الراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ، فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، و منها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى و الراسخون في العلم.
و قد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد و إلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و هو غير جائز على ما بين في محله، فهي لا محالة معان مترتبة في الطول: فقيل: إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معنى مطابقي و له لازم و للازمه لازم و هكذا، و قيل: إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ و إرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما إنك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي و هو بعينه طلب للإرواء، و طلب لرفع الحاجة الوجودية، و طلب للكمال الوجودي و ليس هناك أربعة أوامر و مطالب، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض و السقي مرتبط بها و معتمد عليها.
و هاهنا قول رابع: و هو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام، فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر و النهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم و جعله و تشريعه، فتأويل قوله: أقيموا الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء و المنكر، و إن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء و الأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي، و إن كان إخبارا عن الحوادث و الأمور الحالية و المستقبلة فهو على قسمين: فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى: «و فيكم سماعون لهم»: التوبة- 47، و قوله تعالى: «غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»: الروم- 4 و إن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية و لا يدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المربوطة بيوم القيامة و وقت الساعة و حشر الأموات و الجمع و السؤال و الحساب و تطاير الكتب، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان و إدراك العقول كحقيقة صفاته و أفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية.
و الفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى و أفعاله و ما يلحق بها من أحوال يوم القيامة و نحوها و بين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى، نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم،
و أما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.
فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل، و هي أربعة.
و هاهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول و إن تحاشى القائلون بها عن قبوله.
فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل و أكثر استعماله في الألفاظ و مفرداتها و أكثر استعمال التأويل في المعاني و الجمل، و أكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية، و يستعمل التفسير فيها و في غيرها.
و من جملتها: أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا و التأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا.
و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ و التأويل ترجيع أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها، و هو قريب من سابقه.
و من جملتها: أن التفسير بيان دليل المراد و التأويل بيان حقيقة المراد، مثاله:
قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد فتفسيره: أن المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب، و تأويله التحذير عن التهاون بأمر الله و الغفلة عنه.
و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ و التأويل بيان المعنى المشكل.
و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالرواية و التأويل يتعلق بالدراية.
و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالاتباع و السماع و التأويل يتعلق بالاستنباط و النظر. فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه، يرد عليها ما يرد عليه و كيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة و ما ينشعب منها.
أما إجمالا: فلأنك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، و لا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلا له، بل أمر خارجي مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل بفتحتين و الباطن إلى الظاهر.
و أما تفصيلا فيرد على القول الأول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام، و ليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآنا ليناله الأفهام، و لا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام، و يرد عليه: أنه لا دليل عليه، و مجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع و كون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الأم مرجع لأولادها و ليست بتأويل لهم، و الرئيس مرجع للمرءوس و ليس بتأويل له.
على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه و هو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام و آيات الصفات و غيرها.
و أما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات، و مرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، و هذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء- 82، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية، فإن انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام و لو كان لغير الله أمر ممكن، و لا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر، إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب و اللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق و الحق بالتأويل و الصرف عن ظاهره، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال، و تناقض الآراء، و السهو و النسيان و الخطاء و التكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام، و مسرح للبحث و التأمل و التدبر، و ليس فيه آية أريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي و لا أن فيه أحجية و تعمية.
و أما القول الثالث فيرد عليه: أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض و بعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعا- و خاصة لو قلنا إنها لوازم المعنى- مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام و ذكاء السامع المتدبر و بلادته، و هذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: و ما يعلم تأويله إلا الله، فإن المعارف العالية و المسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى و طهارة النفس بل من حيث الحدة و عدمها، و إن كانت التقوى و طهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران و العلية كما هو ظاهر قوله و ما يعلم تأويله إلا الله.
و أما القول الرابع فيرد عليه: أنه و إن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه و إن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن، و أن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية و المستقبلة تأويلا للكلام، و في حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و آيات القيامة.
توضيحه: أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: و ابتغاء تأويله «إلخ» إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله «إلخ» فإن كثيرا من تأويل القرآن و هو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا و آيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى و غير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم، و كذا الحقائق الخلقية و المصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات و المعاملات و سائر الأمور المشرعة.
و إن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله إلخ، و أفاد أن غيره تعالى و غير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه، و هو يؤدي إلى الفتنة و إضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و القيامة فإن الفتنة و الضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام و القصص و غيرهما كأن يقول القائل (و قد قيل) إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنساني بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح، فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه و إلغاء الحكم الديني المشرع. و كأن يقول القائل (و قد قيل) إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية، و إنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم و خضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة. و يوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل، و جميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا شك، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات و آيات القيامة.
إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، و أنه موجود لجميع الآيات القرآنية: محكمها و متشابهها، و أنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، و إنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد و توضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف- 4 و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا المعنى.
على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي- استعملها و هي ستة عشر موردا على ما عدت- إلا في المعنى الذي ذكرناه.[2]
[1] الميزان في تفسير القرآن ج۳ ۲۳-۲۷
[2] الميزان في تفسير القرآن ج۳ ۴۴-۴۹
بدون نظر